الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                74 ص: وقد دل على ما ذكرنا من هذا ما قد روي عن أبي هريرة من قوله بعد رسول الله - عليه السلام - كما قد حدثنا إسماعيل بن إسحاق ترنجه قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عبد السلام بن حرب ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن أبي هريرة: " في الإناء يلغ فيه الكلب أو الهر ، قال: يغسل ثلاث مرات" فلما كان أبو هريرة قد رأى أن الثلاث تطهر الإناء من ولوغ الكلب فيه، وقد روي عن النبي - عليه السلام - ما ذكرنا، ثبت بذلك نسخ السبع; لأنا نحسن الظن به ولا نتوهم عليه أنه يترك ما سمعه من النبي - عليه السلام - إلا إلى مثله، وإلا سقطت عدالته فلم يقبل قوله ولا روايته.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قد دل على ما ذكرنا من قولهم: "قالوا: فلما روي ..." إلى آخره "ما قد روي عن أبي هريرة " و"ما" في محل الرفع على أنه فاعل "دل". تحرير ذلك: أن أبا هريرة أفتى بغسل الثلاث من ولوغ الكلب، والحال أنه روى عن النبي - عليه السلام - الغسل بالسبع فدل ذلك أن الأمر بالسبع قد نسخ وأن النسخ قد ثبت عنده، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الراوي إذا ظهرت منه المخالفة فيما رواه قولا أو فعلا فإن كان ذلك تنازع قبل الرواية فإنه لا يقدح في الخبر، ويحمل على أنه كان ذلك مذهبه قبل أن يسمع الحديث فلما سمع الحديث رجع إليه، وكذلك إن لم يعلم التاريخ; لأن الحمل على أحسن الوجهين واجب ما لم يتبين خلافه، وهو أن يكون ذلك منه قبل أن يبلغه الحديث ثم رجع إلى الحديث، وأما إذا علم ذلك منه بتاريخ بعد الحديث فإن الحديث يخرج به من أن يكون حجة; لأن فتواه بخلاف الحديث أو عمله من أبين الدلائل على الانقطاع وأنه لا أصل للحديث، فإن الحال لا يخلو إما أن [تكون] الرواية تقولا منه لا عن سماع، فيكون واجب الرد، أو تكون فتواه وعمله بخلاف الحديث على وجه قلة المبالاة والتهاون بالحديث; فيصير به فاسقا لا تقبل روايته أصلا، أو يكون [ ص: 183 ] ذلك عن غفلة ونسيان وشهادة المغفل لا تكون حجة، فكذلك خبره، أو يكون ذلك منه على أنه علم انتساخ حكم الحديث، وهذا أحسن الوجوه، فيجب الحمل عليه تحسينا للظن بروايته وعمله; فإنه روى على طريق إبقاء الإسناد وعلم أنه منسوخ فأفتى بخلافه، فبهذا الطريق حكمنا في حديث أبي هريرة ؛ لأنا نحسن الظن به، فحملنا ما رواه من السبع على أنه كان قد علم انتساخ هذا الحكم فأفتى بالثلاث، أو علم بدلالة الحال أن مراد رسول الله - عليه السلام - التقرب فيما وراء الثلاث، وهذا كما في قول عمر - رضي الله عنه - "متعتان كانتا على عهد رسول الله - عليه السلام -وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج" فإنما يحمل هذا على علمه بالانتساخ، ولهذا قال ابن سيرين : هم الذين رووا الرخصة في المتعة وهم الذين نهوا وليس في رأيهم ما يرغب عنه ولا في نصيحتهم ما يوجب التهمة.

                                                وقال صاحب "البدائع": وما رواه الشافعي -أراد به الأمر بالسبع في ولوغ الكلب [في] الإناء- كان في ابتداء الإسلام لقطع عادة الناس في الألف بالكلاب، كما أمر بكسر الدنان، ونهى عن الشرب في ظروف الخمر حتى حرمت الخمر، فلما تركوا العادة أزال ذلك كما في الخمر، دل عليه ما روي في بعض الروايات: "فليغسله سبعا أولاهن -أو أخراهن- بالتراب" وفي بعضها: "وعفروا الثامنة بالتراب" وذلك غير واجب بالإجماع.

                                                قوله: "وقد روي عن النبي عليه السلام" جملة وقعت حالا.

                                                قوله: "ثبت بذلك" جواب لـ"ما".

                                                ثم إسناد الحديث المذكور صحيح; لأن إسماعيل بن إسحاق المعروف بترنجه قال ابن أبي حاتم : كتبت عنه وهو صدوق. وترنجه -بضم التاء المثناة من فوق والراء وسكون النون وفتح الجيم- ووقع صفة له ها هنا.

                                                [ ص: 184 ] وأبو نعيم الفضل بن دكين .

                                                وعبد السلام بن حرب روى له الجماعة.

                                                وعبد الملك بن أبي سليمان العرزمي أبو عبد الله الكوفي روى له مسلم .

                                                وعطاء بن أبي رباح ، روى له الجماعة.

                                                فإن قلت: قال البيهقي : تفرد به عبد الملك من بين أصحاب أبي هريرة والحفاظ الثقات، ولمخالفته أهل الحفظ والثقة في زمانه تركه شعبة ولم يحتج به البخاري في صحيحه وقد اختلف عليه في هذا الحديث، فمنهم من يرويه عنه مرفوعا، ومنهم من يرويه عنه موقوفا على أبي هريرة من قوله، ومنهم من يرويه عنه من فعله، وقد اعتمد الطحاوي على الرواية الموقوفة في نسخ حديث السبع، وأن أبا هريرة لا يخالف النبي - عليه السلام - فيما يرويه عنه، وكيف يجوز ترك رواية الحفاظ الإثبات من أوجه كثيرة لا يكون مثلها غلطا، برواية واحد قد عرف بمخالفة الحفاظ في بعض أحاديثه.

                                                قلت: هذا تحامل منه; لأن الحديث رواه الطحاوي بسند صحيح، ثم الدارقطني كذلك بسند قال في "الإمام": هذا سند صحيح، ثم ابن عدي أيضا عن عمر بن شبة ، عن إسحاق الأزرق ، عن عبد الملك إلى آخره.

                                                وعبد الملك قد أخرج له مسلم في "صحيحه" وقال ابن حنبل والثوري : هو من الحفاظ. وعن الثوري : هو ثقة متقن فقيه. وقال أحمد بن عبد الله : ثقة ثبت في الحديث. ويقال: كان الثوري يسميه الميزان.

                                                ولا يلزم من ترك احتجاج البخاري به أن يترك قوله، وتشنيعه على الطحاوي بأنه اعتمد على الرواية الموقوفة في نسخ حديث السبع باطل; لأنه لما صح عنده هذه الرواية حمل رواية السبع على النسخ توفيقا بين الكلامين وتحسينا للظن في حق أبي هريرة ، ولا سيما وقد تأيدت الرواية الموقوفة بالرواية المرفوعة على ما أخرجه [ ص: 185 ] ابن عدي : عن الكرابيسي ، عن إسحاق الأزرق ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات" . ثم قال لم يرفعه غير حسين بن علي الكرابيسي ولم أجد له حديثا منكرا غير هذا، وإنما حمل عليه أحمد بن حنبل من جهة اللفظ بالقرآن، فأما في الحديث فلم أر به بأسا.

                                                وبما روى عبد الرزاق : عن معمر قال: "سألت الزهري عن الكلب يلغ في الإناء، قال: يغسل ثلاث مرات" فهذا الزهري لو لم يثبت عنده نسخ السبع لما أفتى بما أفتى به أبو هريرة .

                                                وروى عبد الرزاق : أيضا عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء كم يغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب؟ قال: كل ذلك سمعت: سبعا وخمسا وثلاث مرات" .

                                                فإن قلت: قد قال البيهقي : وقد روى حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة فتواه بالسبع كما رواه، وفي ذلك دلالة على خطأ رواية عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن أبي هريرة في الثلاث.

                                                قلت: يحتمل أن تكون فتواه بالسبع قبل ظهور النسخ عنده، أو يكون ذلك بطريق الندب، ومخطئ عبد الملك مخطئ.

                                                وقد روي عن أبي هريرة مرة واحدة أيضا، قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة "في الهر يلغ في الإناء قال: اغسله مرة واحدة" .

                                                [ ص: 186 ] وإسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح، فهذا أدل دليل على ثبوت انتساخ السبع عنده، وأن مراده من رواية الثلاث هو أن يكون على الندب والاستحباب.




                                                الخدمات العلمية