الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        38357 - قال مالك : فإن حلف المدعون استحقوا دم صاحبهم وقتلوا من حلفوا عليه ، ولا يقتل في القسامة إلا واحد ، لا يقتل فيها اثنان ، يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا ، فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الأيمان عليهم ، إلا أن ينكل أحد من ولاة المقتول ، ولاة الدم ، الذين يجوز لهم العفو عنه ، فإن نكل أحد من أولئك فلا سبيل إلى الدم إذا نكل أحد منهم .

                                                                                                                        38358 - قال مالك : وإنما ترد الأيمان على من بقي منهم ، إذا نكل أحد ممن لا يجوز له عفو ، فإن نكل أحد من ولاة الدم الذين يجوز لهم [ ص: 315 ] العفو عن الدم ، وإن كان واحدا ، فإن الأيمان لا ترد على من بقي من ولاة الدم ، إذا نكل أحد منهم عن الأيمان ، ولكن الأيمان إذا كان ذلك ، ترد على المدعى عليهم ، فيحلف منهم خمسون رجلا ، خمسين يمينا ، فإن لم يبلغوا خمسين رجلا ، ردت الأيمان على من حلف منهم ، فإن لم يوجد أحد إلا الذي ادعي عليه ، حلف هو خمسين يمينا وبرئ .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        38359 - قال أبو عمر : قد تقدم في باب العفو اختلاف الفقهاء في من له العفو عن الدم .

                                                                                                                        38360 - والجمهور يرون أن كل وارث عندهم جائز للدية ، والمال ، مستحق للدم ، لأن الدية إنما تؤخذ عن الدم ، وعفو كل وارث عندهم جائز عن الدم فلا معنى لإعادة ذلك هاهنا .

                                                                                                                        38361 - وأما قوله : فإن حلف المدعون ، استحقوا دم صاحبهم ، وقتلوا من حلفوا عليه ، فإن العلماء قد اختلفوا في ما يستحق بأيمان القسامة ، هل يستحق بها الدم أو الدية ؟

                                                                                                                        38362 - فالذي ذهب إليه مالك في ذلك ، قول عبد الله بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز .

                                                                                                                        38363 - وقال الزهري ، وابن أبي ذئب .

                                                                                                                        38364 - وبه قال أحمد بن حنبل ، وداود .

                                                                                                                        [ ص: 316 ] 38365 - وقال إسحاق بن راهويه : من قال بالقود في القسامة ، لا أعينه ، وأما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : لا يقاد بالقسامة ، ولكن تجب بالقسامة الدية .

                                                                                                                        38366 - قال : والذين يبدءون عندنا بالأيمان في القسامة أولياء المقتول ، فإن نكلوا ، عادت الأيمان إلى أولياء الذين ادعي عليهم القتل ، وإن نقصوا عن خمسين ، ردت عليهم الأيمان .

                                                                                                                        38367 - وأما قول مالك : لا يقتل في القسامة إلا واحد ولا يقتل بها اثنان ، فقد اتفق على أنه لا يقتل بالقسامة إلا واحد ، لأن الذين يقولون : إن الجماعة تقتل بالواحد إذا اجتمعوا على قتله عمدا ، لا يوجبون قودا بالقسامة ، وإنما يوجبون الدية .

                                                                                                                        38368 - والزهري ، وداود ، لا يقتلان اثنين بواحد ، كما لا تقطع عند الجميع يدان بيد .

                                                                                                                        38369 - وقد مضت هذه المسألة في موضعها .

                                                                                                                        38370 - ذكر وكيع ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي مليكة ، أن ابن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، أقادا بالقسامة .

                                                                                                                        38371 - وروى معمر ، عن الزهري ، أنه كان يقول : القسامة يقاد بها .

                                                                                                                        38372 - وابن أبي ذئب عن الزهري مثله ، وزاد : ولا يقتل بالقسامة إلا واحد .

                                                                                                                        [ ص: 317 ] 38373 - وقال الشافعي ، في المشهور من مذهبه ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والحسن بن حي : لا قود في القسامة ، ولا يستحق بها إلا الدية .

                                                                                                                        38374 - وهو قول جماعة أهل العراق .

                                                                                                                        38375 - وقد روي عن أبي بكر ، وعمر ، أنهما لم يقيدا بالقسامة ، وقد قيل : إن أول من حكم بها عمر ، وأنه لا يصح فيها عن أبي بكر شيء ، لأنه من مراسيل الحسن .

                                                                                                                        38376 - وذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال حدثني عبد السلام بن حرب ، عن عمرو ، عن الحسن ، أن أبا بكر ، وعمر ، والخلفاء ، والجماعة الأولى ، لم يكونوا يقتلون بالقسامة .

                                                                                                                        38377 - قال : وحدثني وكيع ، قال : حدثني المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، قال : قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه : القسامة توجب العقل ولا تشيط الدم .

                                                                                                                        38378 - قال : وحدثني محمد بن بشر ، قال : حدثني سعيد ، قال : حدثني أبو معشر ، عن إبراهيم ، قال : القسامة تستحق بها الدية .

                                                                                                                        38379 - قال : وحدثني عبد الرحيم ، عن الحسن بن عمرو ، عن فضيل ، عن إبراهيم ، قال : القود بالقسامة جور .

                                                                                                                        [ ص: 318 ] 38380 - وحدثني محمد بن بشر ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : القسامة تستحق بها الدية ، ولا يقاد بها .

                                                                                                                        38381 - وقال الحسن : القتل بالقسامة جاهلية .

                                                                                                                        38382 - وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قلت لعبيد الله بن عمر : أعلمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقاد بالقسامة ؟ " قال : لا . قلت : فأبو بكر ؟ قال : لا . قلت فعمر ؟ قال : لا . قلت : فكيف تجترءون عليها ؟ فسكت .

                                                                                                                        38383 - قال : فقلت ذلك لمالك ، فقال : لا تضع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الختل ، لو ابتلي بها لأقاد بها .

                                                                                                                        38384 - وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني يونس بن يوسف ، قال : قلت لسعيد بن المسيب ، أعجب من القسامة ، يأتي الرجل يسأل عن القاتل والمقتول ، لا يعرف القاتل من المقتول : ثم يقسم ؟ قال : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقسامة في قتيل خيبر ، ولو علم أن الناس يجترءون عليها ، ما قضى بها .

                                                                                                                        38385 - وأما قول مالك : يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا ، فإن نكلوا ، أو نكل من يجوز له العفو منهم ، ردت الأيمان على المدعى عليهم ،

                                                                                                                        38386 - فإن مالكا ، والشافعي وأصحابهما ، والليث ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وداود ، يقولون يبدأ المدعون بالأيمان في القسامة .

                                                                                                                        [ ص: 319 ] 38387 - إلا أن داود لا يقضي بالقسامة ، إلا أن يكون القوم يدعون على أهل مدينة كبيرة ، أو قرية كبيرة هم أعداء لهم ، يدعون أن وليهم قتل عمدا ، فلا يقضى بالقسامة في شيء غير ذلك ، ولا يقضى بها في دعوى قتل الخطأ ، ولا في شيء يشبه المعنى المذكور .

                                                                                                                        38388 - وأما اشتراط العداوة بين المقتول وأوليائه ، وبين القاتل وأهل موضعه ، فاشترطها الشافعي ، وأحمد ، وداود ، وليس ذلك في شرط مالك ، فيما يوجب القسامة .

                                                                                                                        38389 - حدثني عبيد بن محمد ، قال : حدثني الحسن بن سلمة بن معلى ، قال : حدثني ابن الجارود ، قال : حدثني إسحاق بن منصور ، قال : قال لنا أحمد بن حنبل ، في الذي ذهب إليه في القسامة ، حديث بشير بن يسار : إذا كان بين القوم عداوة وشحناء ، كما كان بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود فوجد فيها القتيل ، ادعى أولياؤه عليهم .

                                                                                                                        38390 - وأما فقهاء الكوفة ، والبصرة ، وكثير من أهل المدينة ، فإنهم يبدئون في القسامة المدعى عليهم بالأيمان ، فإن حلفوا ، بروا عند بعضهم ، وعند أكثرهم ، يحلفون ويغرمون الدية اتباعا لعمر - رضي الله عنه - وهو سلفهم في ذلك .

                                                                                                                        38391 - وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : ابن شهاب يقول : سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون اليمين على المدعى عليهم ، إذا كانوا جماعة ، أوعلى المدعى عليه إذا كان واحدا ، وعلى أوليائه ، يحلف منهم خمسون رجلا ، إذا لم تكن بينة يؤخذ بها ، فإن نكل منهم رجل واحد ردت قسامتهم ووليها المدعون ، فيحلفون بمثل ذلك ، فإن حلف منهم خمسون ، استحقوا الدية ، وإن نقصت [ ص: 320 ] قسامتهم ، ورجع منهم واحد ، لم يعطوا الدية .

                                                                                                                        38392 - قال أبو عمر : هذا خلاف ما تقدم عن ابن شهاب ، أنه يوجب القود بالقسامة ، لأنه لم يوجب بها هاهنا إلا الدية .

                                                                                                                        38393 - وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، عن رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليهود بدءا بهم ، قال : " يحلفون لكم خمسون رجلا " فأبوا . فقال للأنصار : " أتحلفون ؟ " فقالوا : لا نحلف على الغيب ، فجعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية على اليهود ، لأنه وجد بين أظهرهم .

                                                                                                                        38394 - قال أبو عمر : هذه حجة قاطعة للثوري ، وأبي حنيفة ، وسائر أهل الكوفة .

                                                                                                                        38395 - قال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرنا الفضل عن الحسن ، أنه أخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ باليهود ، فأبوا أن يحلفوا ، فرد القسامة على الأنصار ، وجعل العقل على اليهود .

                                                                                                                        38396 - قال : وأخبرني معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن يحيى بن سعيد ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالأنصار ، وقال لهم : " احلفوا واستحقوا " فأبوا أن يحلفوا ، فقال : " أيحلف لكم يهود ؟ " ما يبالي اليهود أن يحلفوا ، فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده بمائة من الإبل .

                                                                                                                        [ ص: 321 ] 38397 - قال أبو عمر : قد تقدمت أحاديث مسندة في هذا الباب بالقولين جميعا ، وذلك يغني عن إعادتها .

                                                                                                                        38398 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثني أبو معاوية ، وشبابة بن سوار ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري قال : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القسامة ، أن اليمين على المدعى عليهم .

                                                                                                                        38399 - قال أبو عمر : هذا خلاف ما تقدم من رواية ابن إسحاق ، عن سهل بن أبي حثمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                        38400 - قال أبو بكر : وحدثني أبو معاوية ، ومعن بن عيسى ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، أنه كان يرى القسامة على المدعى عليهم .

                                                                                                                        38401 - قال : وحدثني محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن عمر ، أنه سمع أصحابا لهم يحدثون ، أن عمر بن عبد العزيز بدأ المدعى عليهم باليمين ، ثم ضمنهم العقل .

                                                                                                                        38402 - قال أبو عمر : وأخبرنا أبو معاوية عن مطيع ، عن فضيل بن عمرو ، عن ابن عباس ، أنه قضى بالقسامة على المدعى عليهم .

                                                                                                                        38403 - قال أبو عمر : السنة المجتمع عليها ; أن البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر .

                                                                                                                        38404 - يروى من أخبار الآحاد ، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثنا [ ص: 322 ] عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثني محمد بن إسماعيل الصائغ ، وحدثنا أحمد بن قاسم ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قالا : حدثني يحيى بن أبي بكر ، قال : حدثني نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، قال : كتبت إلى ابن عباس ، في امرأتين ، أخرجت إحداهما يدها تشخب دما ، فقالت : أصابتني هذه ، وأنكرت الأخرى ، قال : فكتب إلي ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن اليمين على المدعى عليه " ، وقال : " لو أن الناس أعطوا بدعواهم ، لادعى ناس دماء قوم وأموالهم " ، ادعها ، فاقرأ عليها : ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ) [ آل عمران : 77 ] فقرأت عليها ، فاعترفت ، فبلغه ذلك فسره .

                                                                                                                        38405 - وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني محمد بن الجهم ، قال : حدثني عبد الوهاب ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى ناس دماء قوم وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه " .

                                                                                                                        38406 - وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني عبيد الله بن عبد الواحد ، قال : حدثني أحمد بن محمد بن أيوب ، قال : حدثني إبراهيم بن سعد ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن محمد بن قبطي أحد بني حارثة ، قال محمد بن إبراهيم : وايم الله ، ما كان سهل بأكثر علما منه ، ولكنه كان أسن منه ، إنه قال : ما كان الشأن هكذا ، ولكن سهلا [ ص: 323 ] أوهم ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار : " احلفوا " على ما لا علم لكم به ، ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار أنه قد وجد قتيل بين أظهركم ، فدوه ، فكتبوا له يحلفون ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلا ، فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده .

                                                                                                                        38407 - قال أبو عمر : ليس مثل هذا عند أهل العلم بشيء ، لأن شهادة العدل لا تدفع بالإنكار لها ، لأن الإنكار لها جهل بها ، وسهل قد شهد بما علم ، وحضر القصة ، وركدته منها ناقة حمراء .




                                                                                                                        الخدمات العلمية