في هذه السنة ، سلخ ربيع الأول ، ملك مدينة صلاح الدين يوسف بن أيوب دمشق ، وسبب ذلك أن نور الدين لما مات وملك ابنه الملك الصالح بعده كان بدمشق ، وكان سعد الدين كمشتكين قد هرب من إلى سيف الدين غازي حلب ، كما ذكرناه ، فأقام بها عند شمس الدين ابن الداية ، فلما استولى سيف الدين على البلاد الجزرية خاف ابن الداية أن يغير إلى حلب فيملكها ، فأرسل سعد الدين إلى دمشق ليحضر الملك الصالح ومعه العساكر إلى حلب ، فلما قارب دمشق سير إليه شمس الدين محمد بن المقدم عسكرا فنهبوه ، وعاد منهزما إلى حلب ، فأخلف عليه ابن الداية عوض ما أخذ منه ، ثم إن الأمراء الذين بدمشق نظروا في المصلحة ، فعلموا أن مسيره إلى حلب أصلح للدولة من مقامه بدمشق ، فأرسلوا إلى ابن الداية يطلبون إرسال سعد الدين ليأخذ الملك الصالح ، فجهزه وسيره وعلى نفسها براقش تجني ، فسار إلى [ ص: 405 ] دمشق في المحرم من هذه السنة ، وأخذ الملك الصالح وعاد إلى حلب ، فلما وصلوا إليها قبض سعد الدين على شمس الدين ابن الداية وإخوته ، وعلى رئيس بن الخشاب رئيس حلب ومقدم الأحداث بها ، ولولا مرض شمس الدين ابن الداية لم يتمكن من ذلك .
واستبد سعد الدين بتدبير الملك الصالح ، فخافه ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق وقالوا : إذا استقر أمر حلب أخذ الملك الصالح وسار به إلينا ، وفعل مثل ما فعل بحلب ، وكاتبوا صاحب سيف الدين غازي الموصل ليعبر الفرات إليهم ليسلموا إليه دمشق ، فلم يفعل وخاف أن تكون مكيدة عليه ليعبر الفرات ويسير إلى دمشق فيمنع عنها ويقصده ابن عمه وعسكر حلب من وراء ظهره فيهلك . أشار عليه بهذا زلفندار عز الدين ، والجبان يقدر البعيد من الشر قريبا ، ويرى الجبن حزما ، كما قال :
يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك طبيعة الرجل الجبان
فلما أشار عليه بهذا الرأي زلفندار قبله وامتنع من قصد دمشق ، وراسل سعد الدين والملك الصالح وصالحهما على ما أخذه من البلاد ، فلما امتنع عن العبور إلى دمشق عظم خوفهم ، وقالوا : حيث صالحهم سيف الدين لم يبق لهم مانع عن المسير إلينا ، فكاتبوا حينئذ ، صاحب صلاح الدين يوسف بن أيوب مصر ، واستدعوه ليملكوه عليهم ، وكان كبيرهم في ذلك شمس الدين بن المقدم ، ومن أشبه أباه فما ظلم ، وقد ذكرنا مخامرة أبيه في تسليم سنجار سنة أربع وأربعين وخمسمائة .
فلما وصلت الرسل إلى صلاح الدين بذلك لم يلبث ، وسار جريدة في سبعمائة فارس والفرنج في طريقه ، فلم يبال بهم ، فلما وطئ أرض الشام قصد بصرى ، وكان [ بها ] حينئذ صاحبها وهو من جملة من كاتبه ، فخرج ولقيه ، فلما رأى قلة من معه خاف على نفسه ، واجتمع بالقاضي الفاضل وقال : ما أرى معكم عسكرا ، وهذا بلد عظيم لا يقصد بمثل هذا العسكر ، ولو منعكم من به ساعة من النهار أخذكم أهل السواد ، فإن كان معكم مال سهل الأمر . فقال : معنا : مال كثير يكون خمسين ألف دينار ، فضرب صاحب بصرى على رأسه وقال : هلكتم وأهلكتمونا ، وجميع ما كان معهم عشرة آلاف دينار .
ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج كل من بها من العسكر إليه ، فلقوه [ ص: 406 ] وخدموه ، ودخل البلد ، ونزل في دار والده المعروفة بدار العقيقي ، وكانت القلعة بيد خادم اسمه ريحان ، فأحضر صلاح الدين كمال الدين بن الشهرزوري وهو قاضي البلد والحاكم في جميع أموره من الديوان والوقف وغير ذلك ، وأرسله إلى ريحان ليسلم القلعة إليه ، وقال : أنا مملوك الملك الصالح ، وما جئت إلا لأنصره وأخدمه ، وأعيد البلاد التي أخذت منه إليه ، وكان يخطب له في بلاده كلها ، فصعدكمال الدين إلى ريحان ، ولم يزل معه حتى سلم القلعة ، فصعد صلاح الدين إليها ، وأخذ ما فيها من الأموال ، وأخرجها واتسع بها وثبت قدمه ، وقويت نفسه ، وهو مع هذا يظهر طاعة الملك الصالح ، ويخاطبه بالمملوك ، والخطبة والسكة باسمه .