ولما كان معنى الوصفين: فنحن نيسر لتلاوة كتابنا من يكون قابلا للعلم؛ الذي هو عمود الخشية؛ بما تعلمه منه بخبرنا؛ وبصرنا؛ وكان الذي ضم إلى التلاوة الفهم في الذروة العليا من العلم؛ قال - عطفا على هذا الذي [ ص: 54 ] أرشد السياق إلى تقديره؛ مشيرا بأداة البعد إلى علو رتبة أهل هذا القسم؛ وهم هذه الأمة الأمية؛ على اختلاف مراتب إرثهم؛ مع تراخي إرثهم عمن قبلهم؛ صارفا القول إلى مظهر العظمة؛ لاقتضاء الحال لها؛ في نزع شيء من قوم؛ وإثباته لآخرين -: ثم أورثنا ؛ أي: ملكنا بعظمتنا ملكا تاما؛ وأعطينا عطاء لا رجوع فيه؛ وعبر في غير هذه الأمة بقوله: ورثوا الكتاب ؛ فانظر فارق ما بين العبارتين؛ تعرف الفارق بين المقامين؛ ويجوز أن يكون التقدير: "بعدما أوحينا إليك؛ وأورثناكه؛ ثم أورثناه"؛ ولكنه أظهر؛ دلالة على الوصف؛ تنبيها على تناهي جمعه للكتب الماضية؛ وإعلاما بأن "من"؛ في "أوحينا إليك من"؛ للبيان؛ فقال: الكتاب ؛ أي: القرآن - باتفاق المفسرين؛ قاله الأصفهاني -؛ الجامع لكل كتاب أنزلنا؛ فهو أم لكل خير؛ وقال ؛ كما نقله ابن عباس ابن الجوزي : إن الله أورث أمة محمد كل كتاب أنزله؛ الذين اصطفينا ؛ أي: فعلنا في اختيارهم فعل من يجتهد في ذلك؛ من عبادنا ؛ أي: أخلصناهم لنا؛ وهم بنو إسماعيل؛ ومن تبعهم؛ يعني أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - نقله عن البغوي - رضي الله عنهما -؛ ونقل عن ابن عباس أنه قال: "الإرث": انتقال شيء من قوم إلى قوم؛ فـ "ثم"؛ هنا؛ للترتيب؛ لأن إيتاء هذه الأمة متراخ عن إيتاء [ ص: 55 ] الأمم؛ ونقله إليهم بعد إبطال تلك الأديان؛ ونسخ تلك الكتب؛ إلا ما وافق القرآن؛ فمعنى الإيراث أنه نزع تلك الكتب من الأمم السالفة؛ وأعطاها لهذه الأمة؛ على الوجه الذي رضيه لها؛ وهذا الإيراث للمجموع؛ لا يقتضي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن؛ بل يشمل من يحفظ منه جزءا؛ ولو أنه الفاتحة فقط؛ فإن الصحابة - رضوان الله (تعالى) عليهم أجمعين - لم يكن كل واحد منهم يحفظ جميع القرآن؛ ونحن على القطع بأنهم مصطفون. ابن جرير
ولما كان أكثر الناس لا ينفك عن تقصير كثير؛ لما جبل الإنسان عليه من النقصان؛ فكان من فيه ذلك يخرج نفسه من هذا القسم؛ قال - معرفا له بمقداره؛ مؤنسا له بما فتح له من أنواره؛ مستجلبا له إلى حضرة قدسه؛ ومعدن أسراره؛ مقسما أهل هذا القسم؛ وهم أهل الفهم؛ إلى ثلاثة أقسام؛ مقدما الأدنى؛ لأنهم الأكثر؛ ولئلا يحصل اليأس؛ ويصدع القلوب خوف البأس -: فمنهم ؛ أي: فتسبب عن إيراثنا لهم أن كان منهم؛ كما هو مشاهد؛ ظالم لنفسه ؛ أي: بالتفريط؛ والتهاون في توفية الحق؛ لما يقتضيه حاله من العمل؛ غير متوق للكبائر؛ وهذا القسم هم أكثر الوارث؛ وهم المرجؤون لأمر الله.
ولما كان ترك الإنسان للظلم في غاية الصعوبة؛ نبه على ذلك بصيغة الافتعال؛ فقال: ومنهم مقتصد ؛ أي: متوسط في العمل؛ غير باذل [ ص: 56 ] لجميع الجهد؛ إلا أنه مجتنب للكبائر؛ فهو مكفر عنه الصغائر؛ وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا؛ ومنهم سابق بالخيرات ؛ أي: العبادات؛ وجميع أنواع القربات؛ موف للمقام الذي أقيم به حقه؛ كلما ازداد قربا ازداد عملا؛ لا يكون سابقا إلا وهو هكذا؛ وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؛ والذين اتبعوهم بإحسان؛ ويؤيد هذا قول السابق من رجحت حسناته؛ والمقتصد من استوت حسناته؛ وسيئاته؛ والظالم من رجحت سيئاته؛ وختم بالسابقين لأنهم الخلاصة؛ وليكونوا أقرب إلى الجنات؛ كما قدم الصوامع في سورة "الحج"؛ لتكون أقرب إلى الهدم؛ وأخر المساجد لتقارب الذكر؛ وقدم في "التوبة"؛ السابقين عقيب أهل القربات من الأعراب؛ وأخر المرجئين؛ وعقبهم بأهل مسجد الضرار؛ وقدم - سبحانه - في "الأحزاب"؛ المسلمين؛ ورقى الخطاب درجة درجة؛ إلى الذاكرين الله كثيرا؛ فهو - سبحانه - تارة يبدأ بالأدنى؛ وتارة بالأعلى؛ بحسب ما يقتضيه الحال؛ كما هو مذكور في هذا الكتاب؛ في محاله؛ وهذا على تقدير عود الضمير في "منهم"؛ على "الذين"؛ لا على العباد؛ وهو - مع تأيده بالمشاهدة؛ وأن السياق لأن أهل العلم [ ص: 57 ] هم التالون لكتاب الله - مؤيد بأحاديث لا تقصر؛ وإن كانت ضعيفة؛ عن الصلاحية لتقوية ذلك؛ فمنها ما رواه الحسن: بسنده؛ البغوي عن - رضي الله عنه - أنه قرأ هذه الآية على المنبر؛ وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سابقنا سابق؛ ومقتصدنا ناج؛ وظالمنا مغفور له"؛ ابن الخطاب وبسنده؛ عن - رضي الله عنه - أبي الدرداء الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ؛ وروي بغير إسناد؛ عن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية؛ وقال: "أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب؛ وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا؛ وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم؛ ثم يدخل الجنة"؛ ثم قرأ: - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أسامة بن زيد وقال "كلهم من هذه الأمة"؛ ابن الجوزي - بعد أن ذكر حديث - رضي الله عنه - بغير سند: وروى عمر عن الترمذي - رضي الله عنه - أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية قال: "كلهم في الجنة".
وروى حديث - رضي الله عنه - أبي الدرداء الحافظ ابن عساكر ؛ في الكنى؛ من تأريخ دمشق؛ في ترجمة أخي زياد ؛ أو أبي زياد .
وأما على عود الضمير على العباد [ ص: 58 ] فقال - رضي الله عنهما -: "السابق المؤمن المخلص؛ والمقتصد المرائي؛ والظالم الكافر نعمة الله؛ غير الجاحد لها"؛ وقال ابن عباس : "الظالم أصحاب المشأمة؛ والمقتصد أصحاب الميمنة؛ والسابقون المقربون". قتادة
ولما كان هذا ليس في قوة العبد؛ في مجاري العادات؛ ولا يؤخذ بالكسب والاجتهادات؛ أشار إلى عظمته بقوله: بإذن الله ؛ أي: بتمكين من له القدرة التامة؛ والعظمة العامة؛ والفعل بالاختيار؛ وجميع صفات الكمال؛ وتسهيله؛ وتيسيره؛ لئلا يأمن أحد مكره (تعالى) ؛ قال الرازي؛ في اللوامع: ثم من السابقين من يبلغ محل القربة؛ فيستغرق في وحدانيته؛ وهو الفرد الذي اهتز في ذكره؛ انتهى؛ ثم زاد عظمة هذا الأمر بيانا؛ فقال - مؤكدا؛ تكذيبا لظنون الجاهلين؛ لأن السابق كلما علا مقامه في السبق قل حظه من الدنيا؛ فرأى الجاهلون أنه مضيع لنفسه -: ذلك ؛ أي: السبق؛ أو إيراث الكتاب؛ هو ؛ مشيرا بأداة البعد؛ مخصصا بضمير الفصل؛ الفضل الكبير