ولما ظهر بهذا ما له من ضخامة الملك؛ وعز السلطان؛ وكانت الأوبة عظيمة جدا؛ وكان الثبات على مقام الشهود؛ مع حفظه من جميع جهاته؛ أعظم؛ نبه عليه بقوله - مؤكدا لما طبعت عليه النفوس من ظن أن الأواب لا ينبغي أن يواجه بالعتاب -: ولقد فتنا ؛ أي: بما لنا من العظمة؛ سليمان ؛ أي: مع إسراعه بالرجوع إلى الله؛ والتنبه لما فيه رضاه؛ نوعا من الفتنة؛ الله أعلم بحقيقتها؛ فأسفرت تلك الفتنة عن رسوخه في مقام الأوبة؛ فتنبه لما أردنا بها من تدريبه على ما أقمناه فيه؛ كما فعلنا بأبيه داود - عليهما السلام -؛ فاقتد بهما في الاستبصار بالبلاء؛ فإنا نريد بك أمرا عظيما جليلا شريفا كريما؛ وألقينا ؛ أي: بما لنا من العظمة؛ على كرسيه ؛ الذي كانت تهابه أسود الفيل. [ ص: 382 ] ولما كانت العبرة إنما هي بالمعاني؛ فمن كان معناه ناقصا كان كأنه جسد لا روح فيه؛ له صورة بلا معنى؛ قال: جسدا ؛ فغلب على ذلك المكان الشريف؛ مع ما كنا شرفناه به من هيبة النبوة المقرونة بالملك؛ بحيث لم يكن أحد يظن أن أحدا يقدر على أن يدنو إليه؛ فضلا عن أن يغلب عليه؛ فمكنا هذا الجسد منه تمكينا؛ لا كلفة عليه فيه؛ بل كان ذلك بحيث كأنه ألقي عليه بغير اختياره؛ ليعلم أن الملك إنما هو لنا؛ نفعل ما نشاء بمن نشاء؛ فالسعادة لمن رجانا؛ والويل لمن يأمن مكرنا فلا يخشانا؛ فعما قليل تصير هذه البلدة في قبضتك؛ وأهلها مع العزة والشقاق طوع مشيئتك؛ ويكون لك بذلك أمر لا يكون لأحد بعدك؛ كما أنه ما كان لأحد كان قبلك من نفوذ الأمر؛ وضخامة العز؛ وإحلال الساحة الحرام؛ بقدر الحاجة؛ وسعة الملك؛ وبقاء الذكر؛ والذي أنت فيه الآن ابتلاء؛ واختبار؛ وتدريب على ما يأتي من الأمور الكبار.
ولما كان المراد بإطلاق الجسد عليه التعريف بأنه لا معنى له؛ لا أنه لا روح فيه؛ أطلقه؛ ولم يتبعه ما يبين أنه جماد؛ كما فعل في [ ص: 383 ] العجل؛ حيث قال: "له خوار"؛ فبين بذلك أنه لا روح له؛ وإن صح أن هذا الجسد هو صخر الجني؛ وأن سببه سجود الجرادة - امرأة سليمان - عليه السلام - لصورة أبيها؛ بغير علم نبي الله سليمان - عليه السلام - ولا إرادته؛ فالإشارة بذلك في التسلية أنا سلبنا الملك من صفينا؛ لصورة رفع سجود بعض من ينسب إليه؛ لها في بيته؛ بغير أمره؛ ولا إرادته؛ ولا علمه؛ فكيف بمن يسجد لهذه الأوثان في البيت الحرام؟! فعما قليل نزيل أمرهم؛ ونخمد شرهم؛ ونمحو ذكرهم.
ولما كانت الإنابة رجوعا إلى ما كان؛ فهي استرجاع لما فات؛ قال: ثم أناب ؛