الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لا يتوقف حصول الإيمان على النظر

وقد استدل من شرط النظر بالآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ولا حجة فيها؛ لأن من لم يشترط النظر، لم ينكر أصل النظر، وإنما أنكر توقف الإيمان على وجود النظر بالطرق الكلامية؛ إذ لا يلزم من الترغيب في النظر جعله شرطا.

واستدل بعضهم بأن التقليد لا يفيد العلم؛ إذ لو أفاده، لكان العلم حاصلا لمن قلد في قدم العالم، ولمن قلد في حدثه، وهو محال؛ لإفضائه إلى الجمع بين النقيضين.

وهذا إنما يتأتى في تقليد غير النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما تقليده صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه، فلا يتناقض أصلا.

واعتذر بعضهم عن اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بإسلام من أسلم من الأعراب من غير نظر، بأن ذلك كان لضرورة المبادئ.

وأما بعد تقرير الإسلام وشهرته، فيجب العمل بالأدلة.

ولا يخفى ضعف هذا الاعتذار.

والعجب أن من اشترط ذلك من أهل الكلام ينكرون التقليد، وهم أول داع إليه، حتى استقر في الأذهان أن من أنكر قاعدة من القواعد التي أصلوها، فهو مبتدع، ولو لم يفهمها، ولم يعرف مأخذها، وهذا هو محض التقليد. [ ص: 144 ]

فآل أمرهم إلى تكفير من قلد الرسول صلى الله عليه وسلم في معرفة الله، والقول بإيمان من قلدهم.

وكفى بهذا ضلالا.

وما مثلهم إلا كما قال بعض السلف: إنهم كمثل قوم كانوا سفرا، فوقعوا في فلاة ليس فيها ما يقوم به البدن من المأكول، والمشروب، ورأوا فيها طرقا شتى، فانقسموا قسمين:

فقسم وجدوا من قال لهم: أنا عارف بهذه الطرق، وطريق النجاة منها واحدة، فاتبعوني فيها تنجوا، فتبعوه.

وتخلفت عنه طائفة، فأقاموا إلى أن وقفوا على أمارة، وظهر لهم أن في العمل بها النجاة، فعملوا بها، فنجوا.

وقسم: هجموا بغير مرشد، ولا أمارة، فهلكوا، فليست نجاة من اتبع المرشد بدون نجاة من أخذ بالأمارة إن لم يكن أولى منها.

ونقلت من جزء الحافظ صلاح الدين العلائي: يمكن أن يفصل، فيقال: من لا له أهلية لفهم شيء من الأدلة أصلا، وحصل له اليقين التام بالمطلوب؛ إما بنشأته على ذلك، أو لنور يقذفه الله تعالى في قلبه، فإنه يكتفي فيه بذلك.

ومن فيه أهلية لفهم الأدلة، لم يكتف منه إلا بالإيمان عن دليل.

ومع ذلك: فدليل كل أحد بحسبه، وتكفي الأدلة المجملة التي تحصل بأدنى نظر.

ومن حصلت عنده شبهة، وجب عليه التعلم إلى أن تزول عنه.

قال: فبهذا يحصل الجمع بين كلام الطائفة المتوسطة.

وأما من غلا، فقال: لا يكفي إيمان المقلد، فلا يلتفت إليه؛ لما يلزم منه القول بعدم إيمان أكثر المسلمين.

وكذا من غلا، فقال: لا يجوز النظر في الأدلة؛ لما يلزم منه من أن أكابر السلف لم يكونوا من أهل النظر. انتهى ملخصا. [ ص: 145 ]

واستدل بقوله: «فإذا عرفوا الله» له بأن معرفة الله بحقيقة كنهه ممكنة للبشر.

فإذا كان ذلك مقيدا بما عرف به نفسه؛ من وجوده، وصفاته اللائقة من العلم، والقدرة، والإرادة مثلا، وتنزيهه عن كل نقيضه؛ كالحدوث، فلا بأس به.

فأما ما عدا ذلك، فإنه غير معلوم للبشر، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ولا يحيطون به علما .

فإذا حمل قوله: «فإذا عرفوا الله» على ذلك كان واضحا، مع أن الاحتجاج به يتوقف على الجزم بأنه صلى الله عليه وسلم نطق بهذه اللفظة.

وفيه نظر؛ لأن القصة واحدة، ورواة هذا الحديث اختلفوا، هل ورد الحديث بهذا اللفظ، أو بغيره، فلم يقل صلى الله عليه وسلم وإلا بلفظ منها؟

ومع احتمال أن يكون هذا اللفظ من تصرف الرواة لا يتم الاستدلال.

وقد بينت في أواخر كتاب الزكاة: أن الأكثرين رواه بلفظ: «فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك».

ومنهم من رواه: «فادعهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك».

ومنهم من رواه بلفظ: «فادعهم إلى عبادة الله، فإذا عرفوا الله».

ووجه الجمع بينها أن المراد بالعبادة: التوحيد.

والمراد بالتوحيد: الإقرار بالشهادتين.

والإشارة بقوله: «ذلك» إلى التوحيد.

وقوله: «فإذا عرفوا الله»؛ أي: عرفوا توحيد الله، والمراد بالمعرفة: الإقرار، والطواعية.

فبذلك يجمع بين هذه الألفاظ المختلفة في القصة الواحدة. وبالله التوفيق.

وفي حديث ابن عباس من الفوائد غير ما تقدم:

الاقتصار في الحكم بإسلام الكافر إذا أقر بالشهادتين، فإن من لازم الإيمان [ ص: 146 ] بالله ورسوله التصديق بكل ما ثبت عنهما، والتزام ذلك، فيحصل ذلك لمن صدق بالشهادتين.

وأما ما وقع من بعض المبتدعة من إنكار شيء من ذلك، فلا يقدح في صحة الحكم الظاهر؛ لأنه إن كان مع تأويل، فظاهر، وإن كان عنادا، قدح في صحة الإسلام، فيعامل بما يترتب عليه من ذلك؛ كإجراء أحكام المرتد، وغير ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية