الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن يشرك بالله فقد افترى معنى الافتراء : الإفساد .

والافتراء استعمل في الكذب ، والشرك ، والظلم ، كذا في «الصحاح » . [ ص: 372 ]

فالمعنى : فقد أفسد ، وكذب آثما منصوب على المصدرية ، يعني : ارتكب الكذب ، والفساد كذبا ، وفسادا عظيما ، وجاز أن يكون منصوبا على المفعولية .

والمعنى -على التجريد - : اختلق إثما عظيما يستحقر دونه الآثام .

وهذا وجه الفرق بينه وبين سائر الآثام .

عن جابر -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثنتان موجبتان » ، فقال رجل : يا رسول الله ! ما الموجبتان ؟ قال: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، ومن مات يشرك بالله شيئا ، دخل النار » رواه مسلم .

وعن أبي ذر -رضي الله عنه - قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض ، وهو نائم ، ثم أتيته وقد استيقظ ، فقال : «ما من عبد قال: لا إله إلا الله ، ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة » ، قلت : وإن زنى ، وإن سرق . . . » الحديث متفق عليه .

وفي الباب أحاديث كثيرة ، والله أعلم . انتهى .

وأما الآية الثانية ، فقال : قال البغوي : روي أن «طعمة بن أبيرق » نزل على رجل من بني سليم من أهل مكة يقال له : الحجاج بن غلاط ، فنقب بيته ، فسقط عليه حجر ، فلم يستطع أن يدخله ، ولا أن يخرج حتى أصبح ، فأخذ ليقتل ، فقال بعضهم : دعوه ، فإنه قد لجأ إليكم ، فتركوه ، فأخرجوه من مكة ، فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام ، فنزلوا منزلا ، فسرق بعض متاعهم ، فهرب ، فطلبوه ، فأخذوه ، ورموه بالحجارة حتى قتلوه ، فصار قبره تلك الحجارة .

وقيل : إنه ركب سفينة إلى جدة ، فسرق فيها كيسا فيه دنانير ، فأخذ فألقي في البحر .

وقيل : إنه نزل في حرة بن سليم ، فكان يعبد صنما لهم إلى أن مات . [ ص: 373 ]

فأنزل الله تعالى فيه : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك من الصغائر ، والكبائر بالتوبة ، وبلا توبة لمن يشاء مغفرته ومن يشرك بالله في وجوب الوجود ، وتأصله ، أو في العبادة شيئا فقد ضل عن سبيل الحق ضلالا بعيدا لا يمكن وصوله إلى النجاة ، والمغفرة .

وقال البغوي : قال الضحاك عن ابن عباس : إن هذه الآية السابقة نزلت في شيخ من الأعراب . . . إلى آخر القصة . وكذا أخرج الثعلبي عنه ، والله أعلم . انتهى .

قال بعض أهل العلم في تفسير آية النساء المذكورة : نسيان الله إنما يكون بألا يميز بين الحلال والحرام ، أو يسرق ، أو يزني ، أو يترك الصلاة والصيام ، ويضيع حقوق الأزواج ، والأولاد ، وسائر الأنام ، ويسيء الأدب مع الأبوين .

ولكن من وقع في شرك الشرك ، فهو أنسى له ؛ لأنه عصى عصيانا ، وأتى إثما لا يغفره الله أبدا ، وسائر المعاصي لعل الله يغفرها ، ويعفو عنها رحمة منه ، ولطفا ، وكرما .

وهذه الآية قد دلت على أن الشرك لا يغفر ، ولا بد له من العقاب الذي عليه ، فإن كان الشرك أعظم درجة مما يصير به صاحبه كافرا ، فجزاؤه جهنم يخلد فيها مهانا إلى أبد الآباد ، ولا ينعم فيها دهر الداهر ، وإن كان أصغر درجة يلقى صاحبه عقابا عين له .

وسائر الذنوب ، وباقي الآثام في مشيئة الله تعالى ؛ إن شاء عذب عليها ، وإن شاء غفرها ، ومفهوم الآية : أن الشرك من أكبر الكبائر .

مثال ذلك: أن رعايا الملك تقصيرهم في طاعته ، وإتيانهم بمعصيته ؛ كالسرقة ، وقطع الطريق ، والنوم حين الحراسة مثلا ، وعدم الحضور في المجلس ، والفرار عن معركة الحرب ، والضرب ، وعدم تأدية الخراج ، ومحاصل الأرض ، والزكاة إليه ، ونحوها ، لها عقوبات معينة عند الملك ، ولكنه إن شاء أخذ العاصي على ذلك، وإن شاء عفا عنه .

وهنا قسم آخر لعصيانهم يدل على بغي العاصي على الملك ؛ مثل أن يجعل [ ص: 374 ] أحدا من دونه أميرا ، أو وزيرا ، أو زعيم محلة ، أو مقنن قرية ، أو يقيم كناسا ، أو دباغا ، أو حذاء ، أو زياتا ، أو واحدا من الخدم والحشم مقام الملك ، ويهيئ له تاجا وسريرا ، ويخاطبه بالظل السبحاني ، ويسلم عليه تسليم الرعوي على السلطان ، أو يقرر له يوما للفرح ، وعيدا للسرور ، وموسما للنذور ، أو ينذر له نذر الرعايا للملوك وولاة الأمر .

فهذا الذنب من هذا الإنسان أكبر من جميع ذنوبه ، وأعظم من كل معاصيه .

وفي هذا الموضع لا بد للملك من أن يجزيه على ذلك ما عينه من الجزاء على هذا الذنب ، ولا يغمض البصر عنه ، فإن أغمض ، ولم يعاقب على هذا ، أو غفل عن مثل هذه الجريمة ، فلا ريب أن في سلطاته ثلمة ، وفي شأنه نقصا ، ومثل هذا الملك عند أهل العقل وأولي النهى ذاهب الغيرة ، فاقد الحياء .

إذا تقرر هذا ، فاعرف أن حال ملوك الدنيا إذا كان كذلك، فالله سبحانه أعلى وأكبر مما هنالك ؛ لأنه ملك الملوك ، ومالك الملك ، ولا شخص أغير منه ، ولا أحد أشد حياء منه ، وهو أقدر على كل شيء من كل أحد .

فكيف يستقيم أنه يغفل عن ذنوب المشركين به ، ولا يعاقبهم على ذنب الشرك الذي هو البغي عليه بمثل ما تقدم ؟ وقد قال سبحانه : وما الله بغافل عما يعملون [البقرة : 144] ، و قد أحاط بكل شيء علما [الطلاق : 12] .

وعلى هذا : فهذه الآية نص في محل النزاع ، ودليل قطعي على عدم العفو ، ونفي غفران الشرك ، فكل شيء -قولا كان ، أو عملا - إذا ثبت أنه شرك ، سواء في ذلك الجلي منه ، والخفي ، وقد نص الكتاب أو السنة عليه بالشرك ، وقضى به أحدهما عليه ، فإنه لا يغفر أبدا ، بلا شك فيه ، ولا شبهة .

اللهم إلا أن يتوب قائله وفاعله عنه توبة صحيحة ، وينقلع عن الاعتقاد فيه ، والعمل به ظاهرا وباطنا .

اللهم ارحم المؤمنين ، وقهم عن آفات المشركين . [ ص: 375 ]

قال صاحب «الفتح المجيد » : تبين بهذه الآية أن الشرك أعظم الذنوب ، وأكبر المعاصي والعيوب ؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه ، وأما ما دونه من الذنوب ، فهو داخل تحت مشيئة الله ؛ إن شاء غفر لمن لقيه به ، وإن شاء عذبه .

وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله ؛ لأنه أقبح القبيح ، وأظلم الظلم ، وتنقص لرب العالمين ، وصرف خالص حقه لغيره ، وعدل غيره به ، كما قال تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [الأنعام : 1] .

ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر ، مناف له من كل وجه .

وذلك غاية المعاندة لرب العالمين ، والاستكبار عن طاعته ، والذل له ، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك، فمتى خلا منه ، خرب ، وقامت القيامة ، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله الله » رواه مسلم .

ولأن الشرك تشبيه المخلوق بالخالق -تعالى وتقدس - في خصائص الإلهية ؛ من ملك الضر والنفع ، والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء ، والخوف ، والرجاء ، والتوكل ، وأنواع العبادة كلها بالله تعالى وحده ، فمن علق ذلك بمخلوق ، فقد شبهه بالخالق ، وجعل من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا شبيها بمن له الخلق كله ، والأمر كله ، وبيده الخير كله .

فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه ، ومرجعها إليه ، فما شاء كان ، وما لم [يشأ لم] يكن ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، إذا فتح للناس رحمة ، فلا ممسك لها ، وما يمسك ، فلا مرسل له من بعده ، وهو العزيز الحكيم ، فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات .

التالي السابق


الخدمات العلمية