الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قيل: لا يخفى أنه لا بد في من يشاء من عائد على الموصول ، وهو في المثبت تقديره : من يشاء الله أن يغفر له ، والمنفي لا يتوجه إليه .

قلنا : مراده : التوجه إلى لفظ : من يشاء ، ثم الحمل على ما يناسب في المعنى ، وعبارته توهم أن العائد إلى الموصول ضمير الفاعل كما قيل، وليس كذلك.

ولقائل أن يقول -بعد تسليم ما مر - : لا جهة لتخصيص كل من القيدين بما ذكر ؛ لأن الشرك أيضا يغفر للتائب ، وما دونه لا يغفر للمصر من غير فرق بينهما .

وسوق الآية ينادي على التفرقة ، ويأخذ بكظم المعتزلة ، حتى ذهب البعض منهم إلى أن «يغفر » عطف على المنفي ، والنفي منسحب عليهما ، فالآية للتسوية بينهما ، لا للتفرقة .

ومن تحريف كلامه تعالى قوله : إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة . . .إلخ . [ ص: 358 ]

يعني : أنه ترك المفعول الأول للمحافظة على عمومه ؛ فإن حذفه يفيد ذلك، فذكر أنه لا وجه للمحافظة عليه في أحدهما دون الآخر ، وأما كونه من التنازع ؛ كما قرره النحرير ، فغير متوجه مع اختلاف متعلق المشيئة فيهما ، وما ذكره لتوجيهه تعسف لا يصلح ما أفسده الدهر .

قوله : «ونقض لمذاهبهم » إلخ : رده صاحب «الكشاف » ، فقال : وما قاله بعض الجماعة من أن التقييد بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة ، ووجوب الصفح بعدها ، لم يصدر عن ثبت ؛ لأن الوجوب بالحكمة يؤكد المشيئة عندهم .

وأيضا فإنه أشار بتمثيله بأن الأمير يبذل القناطير لمن يشاء ، ولا يبذل الدينار لمن يشاء ؛ بأن المشيئة بمعنى الاستحقاق ، وهي تقتضي الوجوب ، وتؤكده ؛ كما قاله المدقق ، فلا يرد ما ذكره رأسا .

ووجه إلزام الخوارج يفهم من التقابل ، فافهم . انتهى .

وقال في كتاب «التمييز لما أودعه الزمخشري من الاعتزالات في تفسير الكتاب العزيز » ما نصه : إن الله لا يغفر أن يشرك به .

قال الزمخشري فيه ما مقتضاه : أن مقصوده أن ينظر ، ويقابل قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به لمن لم يتب من الشرك ، وأنه يغفر له إن تاب منه على القطع ، ثم أشار إلى أن ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء لمن تاب أيضا على القطع ، فإن لم يتب ، لم يغفر له أصلا ؛ بناء منه على مقابلة آخر الكلام لأوله .

فخرج له من ذلك -على زعمه - أنه لا يغفر لمن مات مصرا من عصاة المؤمنين .

وهو اعتزال ملفق من النظر إلى مواضع الكلام ، وتنظيره ، ونزول نصه ، ووجه دليله على تحقيقه ، ولو سلمنا هذه المقابلة التي الإجماع على تركها لأجل نصه تعالى على أنه لا يغفر للمشرك ، وأن من عصى بما دون الشرك في المشيئة ، هذا نص الآية . [ ص: 359 ]

فترك هذا ، ومخالفته لأجل مقابلة أول الكلام لآخره من عمى البصيرة .

فإن النظير إنما يرجع إليه مع عدم النص ؛ لأنه كالقياس ، ولا قياس مع وجود النص .

هذا ما أجمعت عليه الصحابة -رضي الله عنهم - على ما ذكره إمام الحرمين في «البرهان » ، على تقدير تسليم هذه المقابلة كما ذكرناه ، وأن مقتضى ذلك ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء لمن تاب ، فمفهومه : أنه إن لم يتب ، فلا غفران له .

فالقول بهذا المفهوم -وهو مفهوم المخالفة - ضعيف ؛ لضعف دلالته ، ومع ضعفه ، فالمعتزلة لا تقول به ، فكيف تحتج بمثله بما لا يقول به لا هو ، ولا شيعته ؟

ثم القائلون بدلالته يشترطون في ذلك ألا يكون دليل آخر يدل على نقضه ، فإن كان ذلك، بطلت دلالته ، ويكون ذلك الخطاب لا مفهوم له ألبتة ، وهذا الموضع قد دلت الدلائل الشرعية القطعية ، والعقلية على جواز الغفران للمصرين ، ويرجى ذلك لهم ، وأجمعت الأمة في ذلك قبل خلق المعتزلة .

ثم إن عوقبوا ، فلا بد من خروجهم بالشفاعة المتواتر نقلها ، فلم يصح للزمخشري من تلفيقه لنصرة اعتزاله شيء .

وقوله -في أثناء كلامه - : إنه قد تبين ؛ يعني : ما قاله مغالطة ، بل تبين ضده ، وهو الحق ، ومتى تبين الاعتزال قط ؟

بل دلالته داحضة ، وحجته ساقطة بما بيناه من الدلائل القطعية العقلية ، والشرعية . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية