الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الدرجة الثالثة

أن الألوهية هي العبادة، وأن العبادة معناها التوحيد.

وقال ابن عباس: كل ما ورد في القرآن من العبادة، فمعناها التوحيد.

وقال تعالى في سورة الذاريات: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات: 56] أي: يوحدون. [ ص: 208 ]

وقال تعالى في فاتحة كتابه العزيز: إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة: 5] أي: إياك نوحد، ونطيع، ونستمد.

وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر والاختصاص كما صرح بذلك علماء المعاني والبيان.

ومثله قوله سبحانه: فإياي فاعبدون [العنكبوت: 56]؛ أي: وحدون.

وهذا تضمن الأمر بالعبادة لله وحده، والنهي عن الشرك فيها؛ لأن الضمير الظاهر المتقدم أفاد النهي عن الإشراك بالله في عبادته، والأمر أفاد الوجوب.

ومثله قوله تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا [النساء:36].

وقال في سورة «البقرة» وهي أول آية ذكر فيها كلمة: «أيها»، التي هي للنداء:

يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم [البقرة:21] أي: وحدوه كما قاله المفسرون.

وقال: لا أعبد ما تعبدون [ الكافرون:1-2] إلى آخر السورة، وهي تسمى سورة الإخلاص، كما تسمى سورة قل هو الله أحد بذلك.

والعبادة المذكورة فيها هي التوحيد، وهو الدين المرضي، وكرر النفي ليعم الماضي، والمستقبل.

والتكرير يفيد التأثير، والمراد بها التوحيد العملي، ويحتاج الشرك العملي في نفيه إلى مثل ذلك البيان.

والمراد هنا: أن العبادة هي المختصة بالله تعالى.

وهي في اللغة: غاية التذلل، ونهاية الخضوع.

وفي الشرع ما أمر به الشارع من أفعال العباد، وأقوالهم المختصة بجلال الله تعالى، وعظمته، وهي اسم الجنس يشمل أنواعا كثيرة.

وأصل العبودية: الخضوع، والتذلل، فالتعبد: هو التذلل، والعبادة: هي الطاعة. [ ص: 209 ]

ومنها: الاستعانة، والاستعاذة، والذبح، والنذر، والدعاء، والعكوف، والطواف، ونحوها.

والطاعة والعبادة قد تجتمعان، وقد تفترقان.

ولا يقال: إن الرد والتكفير، والذم والتحقير إنما ورد فيمن عبد الأصنام والأحجار، وتذلل للأوثان والأشجار، أو عبد الطواغيت من الكهان، أو الشيطان، وغيرها من الكفار.

فكيف يكون ما نزل فيهم محمولا على من عبد الملائكة المقربين، والأولياء الصالحين، والأنبياء المرسلين؟

لأن ما يعبد به الأصنام وغيرها من الدعاء، والذبح، والاعتقاد هو الذي يفعل للأولياء، وغيرهم، والذي يطلب منهم هو الذي يطلب من أولئك.

ففعل المشركين الأولين هو عين فعل المشركين الآخرين، واستوت الكفتان، وتشابهت الطائفتان.


رق الزجاج وراقت الخمر فتشابها وتشاكل الأمر     فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر

وإذا استوى الأصل والفرع في العلة، استويا في حكم الملة.

فكيف إذا وجد النص المتقدم على القياس؟! فإنه يرتفع الإشكال والالتباس.

وإذا لم يبق الفرق بين عبادة الصالح والطالح، فهاك الدليل البين الواضح: خلق الإنسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان : [الرحمن: 1- 9].

التالي السابق


الخدمات العلمية