الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 240 ] مسألة : من يرث الغرة ؟ قال علي : اختلف الناس فيمن تجب له الغرة الواجبة في الجنين : حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا سفيان الثوري عن المغيرة عن إبراهيم النخعي في امرأة شربت دواء فأسقطت ؟ قال : تعتق رقبة وتعطي أباه غرة .

                                                                                                                                                                                          نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب أنه سئل في رجل ضرب امرأته فأسقطت لمن دية السقط ؟ قال : بلغنا في السنة أن القاتل لا يرث من الدية شيئا ، فدية على فرائض الله تعالى ، ليس للذي قتله في ذلك شيء - وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة ، وأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي .

                                                                                                                                                                                          وقال آخرون - غير ذلك : كما نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا محمد بن قيس عن الشعبي أنه قال في رجل ضرب امرأته حتى أسقطت ، قال الشعبي : عليه غرة يرثها ، ويديه - وبهذا القول يقول أبو سليمان ، وجميع أصحابنا .

                                                                                                                                                                                          قال علي : فلما اختلفوا - كما ذكرنا - وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق من ذلك فنتبعه : فنظرنا في قول من رأى أن الغرة موروثة ، كمال تركه الميت ؟ فوجدناهم يقولون : إن الغرة دية ، فهي كحكم الدية ، والدية قد صح أنها موروثة على فرائض المواريث ، فالغرة كذلك .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد ما يجب في الجنين عما يجب في أمه : فجعل في الأم دية ، وجعل في الجنين غرة - فصح أن حكم الغرة كحكم دية النفس ، لا كحكم دية الأعضاء .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : قد صح الاتفاق على أن امرأ لو جني عليه ما يوجب دية فمات ؟ فإنه موروثه عنه ، فكذلك الجنين فيما وجب في الجناية له .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : لو كان واجبا أن تكون للأم لوجب إذا جني عليها فماتت ، ثم ألقت جنينا : أن لا يجب فيه شيء ; لأن الميت لا يستحق شيئا بعد موته ؟ [ ص: 241 ] قال أبو محمد : هذا كل ما احتجوا به ، لا نعلم لهم حجة غير هذا ، وكل هذا ليس لهم فيه حجة ، لما نذكره إن شاء الله تعالى : أما قولهم : إن الغرة دية فهي كحكم الدية ، وقد صح أن الدية موروثة على فرائض المواريث ، فالغرة كذلك - فإن هذا قياس ، والقياس كله فاسد ، ثم لو صح القياس يوما ما لكان هذا منه باطلا ; لأن حكم القياس عند القائلين به إنما يرونه فيما عدم فيه النص ، لا فيما فيه النص .

                                                                                                                                                                                          وأما النص - فإنما جاء في الدية الموروثة فيمن قتل عمدا أو خطأ ، لا فيمن لم يقتل أحدا ، والجنين الذي لم ينفخ فيه الروح لم يقتل قط ، فقياس دية من لم يقتل ، على دية من قتل : باطل - لو كان القياس حقا ; لأنه قياس الشيء على ضده - فبطل هذا القياس - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وأما نحن فإن القول عندنا - وبالله تعالى نتأيد - هو أن الجنين إن تيقنا أنه قد تجاوز الحمل به مائة وعشرين ليلة ، فإن الغرة موروثة لورثته الذين كانوا يرثونه لو خرج حيا فمات ، على حكم المواريث ، وإن لم يوقن أنه تجاوز الحمل به مائة ليلة وعشرين ليلة فالغرة لأمه فقط .

                                                                                                                                                                                          برهاننا على ذلك : أن الله تعالى قال { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } .

                                                                                                                                                                                          وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين } فذكر عليه الصلاة والسلام القود ، أو الدية ، أو المفاداة - على ما ذكرنا قبل - فصح بالقرآن ، والسنة : أن دية القتيل في الخطأ والعمد مسلمة لأهل القتيل ، والقتيل لا يكون إلا في حي : نقله القتل عن الحياة إلى الموت ، بلا خلاف من أهل اللغة التي بها نزل القرآن ، وبها خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          والجنين بعد مائة ليلة وعشرين ليلة : حي بنص خبر الرسول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وإذ هو حي ، فهو قتيل قد قتل بلا شك ، وإذ هو قتيل بلا شك ، فالغرة التي هي ديته واجبة أن تسلم إلى أهله بنص القرآن ، وقد اتفقت الأمة على أن الورثة الذين يسلم لهم الدية أنهم يقتسمونها على سنة المواريث بلا خلاف .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 242 ] وأما إذا لم يوقن أنه تجاوز مائة ليلة وعشرين ليلة ، فنحن على يقين من أنه لم يحيا قط ، فإذا لم يحيا قط ، ولا كان له روح بعد ، ولا قتل ، وإنما هو ماء ، أو علقة من دم ، أو مضغة من عضل ، أو عظام ، ولحم : فهو في كل ذلك بعض أمه ، فإذ ليس حيا بلا شك ، فلم يقتل ، لأنه لا يقتل موات ، ولا ميت ، وإذ لم يقتل ، فليس قتيلا ، فليس لديته حكم دية القتيل ; لأن هذا قياس والقياس كله باطل ، ولو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ، وإنما يقاس عند أهل القياس الشيء على نظيره ، لا على ضده - ومن ليس قتيلا فهو غير مشبه للقتيل ، فلا يجوز القياس هاهنا على أصول أصحاب القياس ، وإذ ليس قتيلا ، فهو بعض من أبعاضها ، ودم من دمها ، ولحم من لحمها ، وبعض حشوتها بلا شك ، فهي المجني عليها ، فالغرة لها بلا شك ، فإن ماتت ثم طرحت الجنين - ولم يوقن أنه أتم عشرين ومائة ليلة - فالجنين لورثة الأم ; لأنه بنفس الجناية وجب لها ، فهي موروثة عنها .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وإن العجب ليكثر ممن يراعي في المولود الاستهلال ، فإن لم يستهل لم يقد به ، ولا ورث منه ، ثم يورث منه الغرة - وهو لم يحيا قط ، فكيف أن يستهل ؟ ونسألهم - عن مولود ولد فرضع وتحرك ولم يستهل ، ثم قتل عمدا أو خطأ ماذا ترون فيه ؟ أغرة أم دية ؟ فإن قالوا : غرة ، أتوا بطريقة له لم يقلها أحد قبلهم - وإن قالوا : بل دية أمه ، نقضوا أصولهم ، إذ جعلوا في قتل ميت دية كاملة أو قودا .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : ليس ميتا ؟ قلنا لهم : قوي العجب أن لا تورثوا حيا وكل هذه أقوال ينقض بعضها بعضا - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          : روينا من طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن عبد الله بن نمير قال كل واحد منهما : نا وكيع ، وأبو معاوية ، قالا جميعا : نا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال : { حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ، قال يجمع أحدكم خلقه في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد } وذكر باقي الحديث .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 243 ] قال علي : وما لم يوقن تمام المائة والعشرين ليلة بجميع أيامها فهو على ما تيقناه من مواتيته ، ولا يجوز أن نقطع له بانتقاله إلى الحياة عن المواتية المتيقنة إلا بيقين ، وأما بالظنون فلا - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية