الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2159 - مسألة : ما أصابه الباغي من دم أو مال ؟ اختلف الناس فيما أصابوه في حال القتال من دم أو مال أو فرج ، فقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وبعض أصحابنا : لا يؤاخذون بشيء من ذلك ، ولا قود في الدماء ولا دية ، ولا ضمان فيما أتلفوه من الأموال ، إلا أن يوجد بأيديهم شيء قائم مما أخذوه فيرد إلى أصحابه .

                                                                                                                                                                                          وقال الأوزاعي : إن كانت الفئتان إحداهما باغية والأخرى عادلة في سواد العامة ، فإمام الجماعة المصلح بينهما يأخذ من الباغية على الأخرى ما أصابت منها بالقصاص في القتلى ، والجراحة ، كما كان أمر تينك الفئتين اللتين نزل فيهما القرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الولاة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : وقال بعض أصحابنا : القصاص عليهم ، وضمان ما أتلفوا كغيرهم ، فلما اختلفوا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه - بمن الله تعالى وطوله - فوجدنا من قال : لا يؤاخذون بشيء ، يحتجون من طريق عبد الرزاق عن معمر أخبرني الزهري : أن سليمان بن هشام كتب إليه يسأله عن امرأة خرجت من عند زوجها ، وشهدت على قومها بالشرك ، ولحقت بالحرورية ، فتزوجت فيهم : ثم إنها رجعت إلى قومها ثانية ؟ فكتب إليه : أما بعد فإن الفتنة الأولى ثارت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا كثير ، فاجتمع رأيهم على أن لا يقيموا على أحد حدا في فرج استحلوه بتأويل القرآن ، إلا أن يوجد شيء بعينه فيرد إلى صاحبه وإني أرى أن ترد إلى زوجها ، وأن يحد من افترى عليها .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة : حدثنا عيسى بن يونس عن معمر عن الزهري [ ص: 345 ] قال : هاجت ريح الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون ، فاجتمع رأيهم على أنه لا يقاد ولا يودى ما أصيب على تأويل القرآن إلا ما يوجد بعينه .

                                                                                                                                                                                          وعن سعيد بن المسيب أنه قال : إذا التقت الفئتان فما كان بينهما من دم أو جراحة فهو هدر ، ألا تسمع إلى قوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } الآية ، حتى فرغ منها ؟ قال : فكل طائفة ترى الأخرى باغية .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : ما نعلم لهم شبهة غير هذا ، وهذا ليس بشيء لوجهين .

                                                                                                                                                                                          أحدهما - أنه منقطع لأن الزهري رحمه الله لم يدرك تلك الفتنة ولا ولد إلا بعدها ببضع عشرة سنة والثاني - أنه لو صح - كما قال - لما كان هذا إلا رأيا من بعض الصحابة لا نصا ولا إجماعا منهم ، ولا حجة في رأي بعضهم دون بعض ، وإنما افترض الله تعالى علينا أهل الإسلام اتباع القرآن ، وما صح عن النبي عليه السلام ، أو ما أجمعت عليه الأمة ، ولم يأمر الله تعالى قط باتباع ما أجمع عليه بعض أولي الأمر منا ، وإذا وقعت تلك الفتنة فبلا شك أن الماضين بالموت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا أكثر من الباقين ، ولقد كان أصحاب بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، وعدوا ، إذ مات عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فما وجد منهم في الحياة إلا نحو مائة واحدة فقط ، فبطل التعلق بما رواه الزهري لو صح ، فكيف وهو لا يصح أصلا ؟ ومن طريق عبد الرزاق عن معمر قال أخبرني غير واحد من عبد القيس عن حميد بن هلال عن أبيه ، قال : لقد أتيت الخوارج وإنهم لأحب قوم على وجه الأرض إلي فلم أزل فيهم حتى اختلفوا ، فقيل لعلي بن أبي طالب قاتلهم ، فقال : لا ، حتى يقتلوا ، فمر بهم رجل استنكروا هيئته ، فثاروا إليه ، فإذا هو عبد الله بن خباب ، فقالوا : حدثنا ما سمعت أباك يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال : سمعته يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول { تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي والساعي في النار } قال : فأخذوه وأم ولده فذبحوهما جميعا على شط النهر فلقد رأيت دماهما في النهر كأنهما شريكان فأخبر بذلك علي بن أبي طالب فقال : [ ص: 346 ] أقيدوني من ابن خباب ؟ قالوا : كلنا قتلناه فحينئذ استحل قتالهم ، فقتلهم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فهذا أثر أصح من أثر الزهري ، أو مثله ، بأن علي بن أبي طالب رأى القود على الخوارج فيمن قتلوه بتأويل القرآن ، بخلاف ما ذكر الزهري من إجماعهم .

                                                                                                                                                                                          فصح الخلاف في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم ، وبلا شك ندري أن القائلين من الصحابة رضي الله عنهم لأبي بكر الصديق أن لا يقاتل أهل الردة أكثر عددا وأتم فضلا ، من الذين ذكر الزهري عنه أنه إجماع لا يصح على أن لا يؤخذ أحد بدم أصابه على تأويل القرآن .

                                                                                                                                                                                          لا بقود ولا بدية ، وأن لا يضمن أحد مالا أصابه على تأويل القرآن ، ولم يكن قولهم ذلك حجة يسوغ الأخذ بمثل ما قالوا ، وإنما رجع الأمر فيما ذكر الزهري إجماعا إلى حكم الوالي ، ولم يكن إلا عليا ، والأشهر عنه إيجاب القود كما ذكرنا ، أو معاوية ، وإنما كان الحق في ذلك بيد علي لا بيده ، وإنما كان معاوية مجتهدا مخطئا مأجورا فقط - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما احتجاج ابن المسيب " بأن كل طائفة ترى الأخرى باغية " فليس بشيء ; لأن الله تعالى لم يكلنا إلى رأي الطائفتين ، لكن أمر من صح عنده بغي إحداهما بقتال الباغية ، ولو كان ما قاله سعيد رضي الله عنه - لما كانت إحداهما أولى بالمقاتلة من الأخرى ، ولبطلت الآية وهذا لا يجوز .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : والقول عندنا أن البغاة كما قدمنا في صدر كلامنا ثلاث أصناف : صنف تأولوا تأويلا يخفى وجهه على كثير من أهل العلم ، كمن تعلق بآية خصتها أخرى ، أو بحديث قد خصه آخر ، أو نسخها نص آخر ، فهؤلاء كما قلنا معذورون ، حكمهم حكم الحاكم المجتهد يخطئ فيقتل مجتهدا ، أو يتلف مالا مجتهدا ، أو يقضي في فرج خطأ مجتهدا ، ولم تقم عليه الحجة في ذلك ، ففي الدم دية على بيت المال ، لا على الباغي ، ولا على عاقلته ويضمن المال كل من أتلفه ، ونسخ كل ما حكموا به ، ولا حد عليه في وطء فرج جهل تحريمه ما لم يعلم بالتحريم - وهكذا أيضا من تأول تأويلا خرق به الإجماع بجهالة ولم تقم عليه الحجة ولا بلغته .

                                                                                                                                                                                          وأما من تأول تأويلا فاسدا لا يعذر فيه ، لكن خرق الإجماع - أي شيء كان - [ ص: 347 ] ولم يتعلق بقرآن ولا سنة ، ولا قامت عليه الحجة وفهمها ، وتأول تأويلا يسوغ ، وقامت عليه الحجة وعند ، فعلى من قتل هكذا القود في النفس فما دونها ، والحد فيما أصاب بوطء حرام ، وضمان ما استهلك من مال .

                                                                                                                                                                                          وهكذا من قام في طلب دنيا مجردا بلا تأويل ، ولا يعذر هذا أصلا ; لأنه عامد لما يدري أنه حرام - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وهكذا من قام عصبية ولا فرق - وقد تكون الفئتان باغيتين إذا قامتا معا في باطل ، فإذا كان هكذا فالقود أيضا على القاتل ، من أي الطائفتين كان - وهكذا القول في المحاربين يقتل بعضهم بعضا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : ونذكر البرهان في كل هذا فصلا فصلا : أما قولنا : من لم تقم عليه الحجة فلا قود عليه ولا حد ، فلقول الله تعالى { لأنذركم به ومن بلغ } فلا حجة إلا على من بلغته الحجة ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وجعفر بن أبي طالب ومن معه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم بأرض الحبشة ، بينهم المهامه الفيح ، والبلاد البعيدة ، ولجة البحر - والفرائض تنزل بالمدينة ولا تبلغهم إلا بعد عام أو أعوام كثيرة ، وما لزمتهم ملامة عند الله تعالى ، ولا عند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عند أحد من الأمة .

                                                                                                                                                                                          فصح يقينا : أن من جهل حكم شيء من الشريعة فهو غير مؤاخذ به إلا في ضمان ما أتلف من مال فقط ; لأنه استهلكه بغير حق ، فعليه متى علم أن يرده إلى صاحبه إن أمكن ، وأن لا يصر على ما فعل وهو يعلم - .

                                                                                                                                                                                          وأما وجوب الدية في ذلك على بيت المال خاصة فلما ذكرناه في " كتاب الدماء والقصاص " ولما رويناه من طريقأبي داود ثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا ابن أبي ذئب ني سعيد - هو ابن أبي سعيد المقبري - قال سمعت أبا شريح الكعبي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يأخذوا العقل وبين أن يقتلوا } وإنما قتلوه متأولين يوم الفتح .

                                                                                                                                                                                          وأما من قامت عليه الحجة وبلغه حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وفهمه ولم [ ص: 348 ] يكن عنده إلا العناد والتعلق : إما بتقليد مجرد ، أو برأي مفرد أو بقياس ، فليس معذورا أو عليه القود أو الدية ، وضمان ما أتلف ، والحد في الفرج ; لقول الله تعالى { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وهؤلاء معتدون بلا شك فعليهم مثل ما اعتدوا به - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : وأما من قتلوه فقد قال قوم : إنه شهيد فلا يغسل ولا يصلى عليه ، لكن يدفن كما هو وقال آخرون : بل يغسل ويكفن ويصلى عليه - وبهذا نأخذ ; لأنهم ، وإن كانوا شهداء - كما روينا من طريق أحمد بن شعيب نا عمرو بن علي نا عبد الرحمن بن مهدي نا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن طلحة بن عبيد الله بن عوف عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن رافع ، ومحمد بن إسماعيل بن إبراهيم قالا : نا سليمان - هو ابن داود الهاشمي نا إبراهيم - هو ابن سعد - عن أبيه عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن طلحة بن عبيد الله بن عوف عن سعيد بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد . }

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أحمد بن شعيب يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم { ومن قتل دون مظلمته فهو شهيد } قال أبو محمد رحمه الله : فصح أن من قتله من البغاة فإنما قتل على أحد هذه الوجوه ، فهو في ظاهر الأمر شهيد ، وليس كل شهيد يدفن دون غسل ولا صلاة .

                                                                                                                                                                                          وقد صح : أن المبطون شهيد ، والمطعون شهيد ، والغريق شهيد ، وصاحب ذات الجنب شهيد ، والمرأة تموت بجمع شهيد ، وصاحب الهدم شهيد - وكل هؤلاء لا خلاف في أنهم يغسلون ويكفنون ويصلى عليهم .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 349 ] والأصل في كل مسلم أن يغسل ويكفن ويصلى عليه ، إلا من خصه نص أو إجماع ، ولا نص ، ولا إجماع ، إلا فيمن قتله الكفار في المعترك ومات في مصرعه - فهؤلاء هم الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزملوا بدمائهم في ثيابهم ويدفنوا كما هم دون غسل ولا تكفين - ولا يجب فرضا عليهم صلاة ، فبقي سائر الشهداء ، والموتى ، على حكم الإسلام في الغسل ، والتكفين والصلاة - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية