الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المثال الحادي والعشرون : لو عم الحرام الأرض بحيث لا يوجد فيها حلال جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجة ، ولا يقف تحليل ذلك على الضرورات لأنه لو وقف عليها لأدى إلى ضعف العباد واستيلاء أهل الكفر والعناد على بلاد الإسلام ، ولا يقطع الناس عن الحرف والصنائع والأسباب التي تقوم بمصالح الأنام .

قال الإمام رحمه الله : ولا يتبسط في هذه الأموال كما يتبسط في المال الحلال بل يقتصر على ما تمس إليه الحاجة دون أكل الطيبات وشرب المستلذات ولبس الناعمات التي هي بمنازل التتمات ، وصور هذه المسألة أن يجهل المستحقين بحيث يتوقع أن يعرفهم في المستقبل ، ولو يئسنا من معرفتهم لما تصورت هذه المسألة لأنه يصير حينئذ للمصالح العامة ، وإنما جاز تناول ذلك قبل اليأس من معرفة المستحقين ، لأن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة ، ولو دعت ضرورة واحد إلى غصب أموال الناس لجاز له ذلك بل يجب عليه إذا خاف الهلاك لجوع أو حر أو برد ، وإذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة ، فما الظن بإحياء نفوس ، مع أن النفس الواحدة قد لا يكون لها قدر عند الله ، ولا يخلو العالم من الأولياء والصديقين والصالحين ، بل إقامة هؤلاء أرجح من دفع الضرورة عن واحد قد يكون وليا لله ، وقد يكون عدوا لله ، وقد جوز الشرع أكل اللقطة بعد التعريف ولم يشترط الضرورة . [ ص: 189 ]

ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد ، حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها ، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها ، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص ، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك . ومثل ذلك أن من عاشر إنسانا من الفضلاء الحكماء العقلاء وفهم ما يؤثره ويكرهه في كل ورد وصدر ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قوله فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وألفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة . ولو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة ، ولعلمنا أن الله أمر بكل خير دقه وجله ، وزجر عن كل شر دقه وجله ، فإن الخير يعبر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد ، والشر يعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح ، وقد قال تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } وهذا ظاهر في الخير الخالص والشر المحض . وإنما الإشكال إذا لم يعرف خير الخيرين وشر الشرين أو يعرف ترجيح المصلحة على المفسدة أو ترجيح المفسدة على المصلحة أو جهلنا المصلحة والمفسدة ، ومن المصالح والمفاسد ما لا يعرف إلا كل ذي فهم سليم وطبع مستقيم يعرف بهما دق المصالح والمفاسد وجلهما ، وأرجحهما من مرجوحهما ، وتفاوت الناس في ذلك على قدر تفاوتهم فيما ذكرته ، وقد يغفل الحاذق الأفضل عن بعض ما يطلع عليه الأخرق المفضول ولكنه قليل .

وأجمع آية في القرآن للحث على المصالح كلها والزجر عن المفاسد بأسرها قوله تعالى { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يعظكم لعلكم تذكرون } فإن الألف واللام في العدل والإحسان للعموم والاستغراق ، فلا يبقى من دق العدل وجله شيء إلا اندرج في قوله { إن الله يأمر بالعدل } ولا يبقى من دق الإحسان وجله [ ص: 190 ] شيء إلا اندرج في أمره بالإحسان ، والعدل هو التسوية والإنصاف ، والإحسان : إما جلب مصلحة أو دفع مفسدة وكذلك الألف واللام في الفحشاء والمنكر والبغي عامة مستغرقة لأنواع الفواحش ولما يذكر من الأقوال والأعمال . وأفرد البغي - وهو ظلم الناس - بالذكر مع اندراجه في الفحشاء والمنكر للاهتمام به ، فإنالعرب إذا اهتموا أتوا بمسميات العام . ولهذا أفرد البغي وهو الظلم مع اندراجه في الفحشاء والمنكر للاهتمام به ، كما أفرد إيتاء ذي القربى بالذكر مع اندراجه بالعدل والإحسان .

( فائدة ) الإحسان لا يخلو عن جلب نفع أو دفع ضرر أو عنهما .

وتارة يكون في الدنيا ، وتارة يكون في العقبى : أما في العقبى فتعليم العلم والفتيا والإعانة على جميع الطاعات وعلى دفع المعاصي والمخالفات ، فيدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان .

وأما في الدنيا فبالإرفاق الدنيوية ودفع المضار الدنيوية ، وكذلك إسقاط الحقوق والعفو عن المظالم .

قال بعض العلماء ينبغي أن لا يعفى عن الظالم كي لا يجترئ على المظالم وهو بعيد من القواعد ، لأن الغالب ممن يعفى عنه أنه يستحي ويرتدع عن الظلم ولا سيما عن ظلم المعافى وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم : بأنه لا يجزي بالسيئة السيئة . ولكن يعفو ويصفح ، مع أن الجرأة عليه أقبح من كل جرأة ، ولأن العفو لا يؤدي إلى الجرأة غالبا إذ لا يعفو من الناس إلا القليل ، وقد مدح الله العافين عن الناس وهو عفو يحب العفو ، وقد رغب في العفو بقوله : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } وقال في القصاص : { فمن تصدق به فهو كفارة له } .

قال بعضهم لو أرخص بعض الناس في السعر على الناس وسامحهم في البيع [ ص: 191 ] وساهلهم في الثمن من ذلك لما يؤدي إليه من كساد أهل سوقه ، وهذا أيضا بعيد فإن الذين يسامحون من المشترين أكثر من الكاسدين من أهل السوقة فلا ترجح مصالح خاصة على مصالح عامة ، وقد قال عليه السلام : { رحم الله رجلا سمحا إذا باع ، سمحا إذا اشترى ، سمحا إذا قضى ، سمحا إذا اقتضى } .

التالي السابق


الخدمات العلمية