الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( وينفق ) الحاكم حتما من مال المفلس ( عليه وعلى من عليه نفقته ) من زوجة وقريب وأم ولد ولو حدث بعد الحجر ( حتى يقسم ماله ) ; لأنه موسر ما لم يزل ملكه عنه .

                                                                                                                            ومحله في الزوجة التي نكحها قبل الحجر .

                                                                                                                            أما المنكوحة بعده فلا ينفق عليها ، وفارقت الولد ، المتجدد بأنه لا اختيار له فيه بخلافها ، ولا يرد على ذلك تمكنه من استلحاقه ; لأنه واجب عليه فلا اختيار له فيه أيضا ، وإنما [ ص: 328 ] أنفق على ولد السفيه إذا أقر به من بيت المال ; لأن إقراره بالمال وبما يقتضيه غير مقبول ، بخلاف إقرار المفلس ، وكذلك المماليك لو حدثوا بعد الحجر باختياره أنفق عليهم ; لأن مؤنتهم من مصالح الغرماء ; لأنهم يبيعونهم ويقتسمون ثمنهم ، ولو اشترى أمة في ذمته وأولدها وقلنا بنفوذ إيلاده فالأوجه وجوب نفقتها وفارقت الزوجة بقدرتها على الفسخ بخلاف هذه ، ولا ينفق على القريب إلا بعد الطلب كما أن ولي الصبي لا ينفق على قريبه إلا بعد الطلب بل هذا أولى لمزاحمة حق الغرماء .

                                                                                                                            نعم ذكروا أن القريب لو كان طفلا أو مجنونا أو عاجزا عن الإرسال كزمن أنفق عليه بلا طلب حيث لا ولي له خاص يطلب له .

                                                                                                                            وقياسه أن يكون القريب هنا كذلك وينفق على زوجته نفقة المعسرين كما رجحه المصنف وغيره خلافا للرافعي كالروياني أنه ينفق نفقة الموسرين وإلا لما أنفق على القريب فقد رد بأن اليسار المعتبر في نفقة الزوجة غير اليسار المعتبر في نفقة القريب وبأن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان ، بخلاف القريب فلا يلزم من انتفاء الأول انتفاء الثاني .

                                                                                                                            والمراد بقوله : ينفق يمون فيشمل الكسوة والإسكان والإخدام وتكفين من مات منهم قبل القسمة ; لأن ذلك كله عليه وشمل ما ذكر الواجب في تجهيزه ، وكذا المندوب إن لم يمنعه الغرماء ( إلا أن يستغني ) المفلس ( بكسب ) حلال لائق به بأن يكون مزريا به فلا ينفق ويكسو حينئذ من ماله بل من كسبه إن رأى من يستعمله فإن فضل منه شيء رد إلى المال أو نقص كمل من المال ، فإن امتنع من كسب لائق ولو مع تعسره أنفق عليه كما اقتضاه كلام المنهاج ، وهو أنسب بقاعدة الباب مما اقتضاه كلام المتولي من عدم الإنفاق ; وإن اختاره السبكي إذ القاعدة أنه لا يؤمر بتحصيل ما ليس بحاصل ، ومن تفصيل ابن النقيب بين أن يتكرر منه الامتناع ثلاثا أو لا ( ويباع مسكنه ) وإن احتاج إليه ( وخادمه ) ومركوبه ( في الأصح وإن احتاج إلى خادم ) أو مركوب ( لزمانته ومنصبه ) ; لأن تحصيلها بالكراء أسهل ، بخلاف ما يأتي فإن تعذر فعلى المسلمين ، وقضيته لزوم المياسير أجرة مركوب وخادم ، وفيه وقفة ; إذ لا يلزمهم إلا الضروري أو ما قرب منه ، [ ص: 329 ] وليس هذا كذلك إلا أن أبهة المنصب بهما يترتب عليها مصلحة عامة فنزلت منزلة الحاجة .

                                                                                                                            والثاني يبقيان للمحتاج إذا كانا لائقين به دون النفيسين وهو مخرج نصه في الكفارات ، وفرق الأول بأن حقوق الله مبنية على المساهلة بخلاف حقوق الآدميين مع كونها لا بدل لها ، وتباع أيضا البسط والفرش ويتسامح في حصير ولبد قليل القيمة وكساء خليع ( ويترك له دست ثوب يليق به ) حال فلسه كما قاله الإمام إن كان في ماله وإلا اشترى له ; لأن الحاجة إلى الكسوة كالحاجة للنفقة ، وقد أطلق كثير أن كل ما قيل يترك له ولم يوجد بماله اشترى له ، وظاهره أنه يشتري له حتى الكتب ونحوها مما ذكر وفيه نظر ظاهر ، ومن ثم بحث بعضهم عدم شراء ذلك له لا سيما عند استغنائه بموقوف ونحوه بل لو استغنى عنه به بيع ما عنده ، وينبغي أن يحمل عليه اختيار السبكي أنها لا تبقى له ، وقول القاضي لا تبقى له في الحج فهنا أولى يحمل على ذلك أيضا وإلا فهو ضعيف كما يعلم مما مر ، ويباع المصحف مطلقا كما قاله العبادي ; لأنه تسهل مراجعة حفظته ، ومنه يؤخذ أنه لو كان بمحل لا حافظ فيه ترك له ، فلو كان يلبس قبل الإفلاس فوق ما يليق بمثله رد إلى اللائق أو دون اللائق تقتيرا أو زهدا لم يزد عليه ، والضمير في له عائد على لفظ من المذكور في النفقة وحينئذ فيدخل فيه نفسه وعياله ونقله الزركشي عن البغوي وغيره ( وهو قميص وسراويل ) وتكة كما بحثه الأذرعي ومنديل ( وعمامة ) وما تحتها كما ذكره القاضي وبحثه الإسنوي والأذرعي ، وطيلسان وخف ودراعة فوق القميص إن لاقت به لئلا يحصل الازدراء بمنصبه ، وتزاد المرأة مقنعة وغيرها مما يليق بها ( ومكعب ) أي مداس ( ويزاد في الشتاء جبة ) لاحتياجه إلى ذلك ويترك للعالم كتبه .

                                                                                                                            وينبغي أن يأتي هنا عند تكرر النسخ ما يأتي في قسم الصدقات ويحتمل الفرق ، وبحث ابن الأستاذ أنه يترك للجندي المرتزق خيله وسلاحه المحتاج إليهما ، قال : بخلاف المتطوع بالجهاد فإن وفاء الدين أولى إلا أن يتعين عليه الجهاد ولا يجد غيرهما ، وتباع آلات حرفته إن كان محترفا ، وفي البويطي أنه يعطي بضاعة ، قال الدارمي : ومعناه اليسير : أي التافه ، أما الكثير فلا ، وقال ابن سريج : يترك له رأس مال يتجر فيه إذا لم يحسن الكسب إلا به ، قال الأذرعي : وأظن أن مراده ما قاله الدارمي ( ويترك قوت يوم القسمة ) وسكناه ( لمن عليه نفقته ) ; لأنه موسر في أوله بخلاف ما بعده لعدم ضبطه ، [ ص: 330 ] ولأن حقوقهم لم تجب فيه أصلا ، وألحق البغوي ومن تبعه باليوم ليلته : أي الليلة التي بعده هذا إن كان بعض ماله خاليا عن تعلق حق لمعين ، فإن تعلق بجميع ماله حق لمعين كالمرهون لم ينفق عليه ولا على عياله منه ( وليس عليه بعد القسمة أن يكتسب أو يؤجر نفسه لبقية الدين ) لقوله تعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } أمر بإنظاره ولم يأمر باكتسابه ، وللخبر المار في قصة معاذ { ليس لكم إلا ذلك } نعم إن عصى بسببه وإن صرفه في مباح كغاصب ومتعمد جناية توجب مالا أمر بالكسب ولو بإيجار نفسه كما نقله الإسنوي واعتمده ; لأن التوبة من ذلك واجبة وهي متوقفة في حقوق الآدميين على الرد ، واستدل له الأذرعي بإيجابهم على الكسوب كسب نفقة الزوجة والقريب ، ومن العلة يعرف أن وجوب ذلك ليس لإيفاء الدين بل للخروج من المعصية لكن الكلام ليس فيه حينئذ ، ولا ينفك الحجر عن المفلس بانقضاء القسمة ولا باتفاق الغرماء على رفعه ، وإنما يفكه القاضي ; لأنه لا يثبت إلا بإثباته فلا يرتفع إلا برفعه كحجر السفيه ; لأنه يحتاج إلى نظر واجتهاد

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            ( قوله : وأم ولد ) وقد مر أن الاستيلاد بعد الحجر غير نافذ فالمراد حدوث الولد لا الاستيلاد ومن ثم قال بعد وفارقت : أي المنكوحة الولد إلخ ( قوله : ولو حدث ) أي الولد

                                                                                                                            ( قوله : وفارقت ) أي الزوجة

                                                                                                                            ( قوله : لا اختيار له ) أي : والوطء ، وإن كان باختياره [ ص: 328 ] لكن لا يلزم منه الإحبال ( قوله : وقلنا بنفوذ إيلاده ) على الوجه المرجوح ( قوله : إلا بعد الطلب ) أي فلو أنفق من غير طلب فهل يضمن أم لا ؟ فيه نظر ، والأقرب عدم الضمان ، وأنه لا رجوع عليهم أيضا ; لأنهم في نفس الأمر إنما أخذوا حقهم

                                                                                                                            ( قوله : لا ولي له خاص ) أي : أو له ولي ولم يطلب فيما يظهر ( قوله : إن لم يمنعه ) يفيد أنهم لو سكتوا بحيث لم يؤذنوا ولا منعوا أنه يفعل للميت فليراجع من الجنائز

                                                                                                                            ( قوله : حلال لائق به ) في التقييد بهما نظر مع ما يأتي من أنه إن امتنع من الكسب لا يكلفه فإن الحاصل منه أنه إن اكتسب بالفعل لا ينفق عليه ، وإن امتنع لا يكلف الكسب ، وقضية التقييد بما ذكر أنه إن اكتسب غير لائق به ينفق عليه من ماله مع حصول ما اكتسبه في يده والظاهر أنه غير مراد ، ثم رأيت الخطيب ذكر ما يصرح به ، وعبارته : ولو رضي بما لا يليق به وهو مباح لم يمنع منه .

                                                                                                                            قال الأذرعي : وكفانا مؤنة

                                                                                                                            ( قوله : فإن امتنع ) أي لم يكتسب وإن لم يسبق أمر له بالاكتساب ( قوله : لزمانته ) هي كل داء يزمن الإنسان فيمنعه عن الكسب كالعمى وشلل اليدين انتهى شيخنا زيادي ( قوله فإن تعذر إلخ ) أي بأن لا يتيسر له من كسبه ولا من بيت المال ( قوله : وقضيته لزوم المياسير ) معتمد

                                                                                                                            ( قوله : أجرة مركوب وخادم ) [ ص: 329 ] وينبغي أن يكون ذلك قرضا على بيت المال ( قوله : وكساء خليع ) ويظهر أن آلة الأكل والشرب التافهة القيمة كذلك ا هـ حج

                                                                                                                            ( قوله : ويباع المصحف مطلقا ) أي سواء وجد وقف يستغني به أم لا ( قوله : ودراعة ) اسم للملوطة ونحوها مما يلبس فوق القميص وهي بضم المهملة كما في شرح الروض ( قوله : مقنعة ) بكسر الميم كما قاله في مختار الصحاح

                                                                                                                            ( قوله : ويزاد في الشتاء جبة ) هل المراد أنها تزاد إذا دخل الشتاء أو وقعت القسمة فيه ما إذا لم يدخل ، ولا وقف فيه أو تزاد مطلقا بمعنى أنه يعطاها ، ولو في الصيف أو وقعت القسمة في الصيف حرره ، وقد يتجه أن المراد إذا وقعت القسمة في الشتاء أو دخل الشتاء زمن الحجر ا هـ سم على منهج ( قوله : ويترك للعالم كتبه ) أي ما لم يستغن بغيرها من كتب الوقف كما تقدم

                                                                                                                            ( قوله : وتباع آلات حرفته ) معتمد [ ص: 330 ]

                                                                                                                            ( قوله : وإن صرفه في مباح ) أي ما غصبه فلا يشكل عليه ما في قسم الصدقات من أنه لو استدان ليصرفه في معصية لكن صرفه في مباح لا يكلف الكسب ، والفرق أن المستدين تصرف فيما ملكه بخلاف الغاصب ، ويحتمل بقاء ما هنا في ظاهره حتى لو اقترض ليصرف في معصية فصرف في مباح كلف الكسب ، ويفرق بينه وبين ما في الزكاة بأن سبب الكسب هنا الخروج من المعصية كما أشار إليه ، ولا يتحقق ذلك إلا بالرد لمن اقترض منه ، وأن سبب صرف الزكاة إليه إعانته على توفية ما عليه من الدين الذي لم يعص بصرفه .

                                                                                                                            [ تنبيه ] قيل الغرماء يتعلقون بحسنات المفلس ما عدا الإيمان كما يترك له دست ثوب ، ويرد بأن هذا توقيفي فلا مدخل للقياس فيه ، وقيل ما عدا الصوم لخبر { الصوم لي } ويرده خبر مسلم أنهم يتعلقون حتى بالصوم ا هـ حج ( قوله : أمر بالكسب ) أي وإن كان مزريا ، بل متى أطاقه لزمه فيما يظهر ; إذ لا نظر للمروآت في جنب الخروج من المعصية ، ويوافقه ما في الإحياء أنه يجب على من أخر الحج مع قدرته عليه حتى أفلس أن يخرج ماشيا إن قدر ، فإن عجز اكتسب من الحلال قدر الزاد ، فإن عجز سأل ليصرف له من نحو زكاة أو صدقة ما يحج به فإن مات ولم يحج مات عاصيا : أي مع أن السؤال يزري به إذا كان من ذوي المروآت ( قوله : والقريب ) إطلاق القريب يشمل الأصل والفرع ، وفيه نظر بالنسبة لنفقة الفرع فإن الأصل لا يجب عليه الاكتساب لفرعه العاجز بخلاف عكسه ( قوله فلا يرتفع إلا برفعه ) ما لم يتبين له مال كما هو ظاهر ا هـ حج : أي فلا يحتاج إلى رفع قاض ، وقد يقال في هذه الصورة يتبين عدم صحة الحج من أصله فلا يحتاج إليهما



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            ( قوله : ولا يرد على ذلك تمكنه من استلحاقه ) عبارة شرح الروض : ويفارق إقراره [ ص: 328 ] بالنسب تجديده الزوجية بأن الإقرار بالنسب واجب بخلاف التزويج . ( قوله : وقلنا بنفوذ إيلاده ) أي : وقد مر أنه لا ينفذ . ( قوله : نعم ذكروا أن القريب لو كان طفلا ) أي : فيما إذا كان المولى مجنونا أو سفيها ، إذ من المعلوم أن قريب الطفل لا يتصور أن يكون طفلا ، فالصبي في قوله كما أن ولي الصبي إلخ مثال . ( قوله : فإن تعذر ) أي : الكراء [ ص: 329 ] أي بفقد الأجرة . ( قوله : إلا أن يقال إن أبهة المنصب إلخ ) صريح في أن المراد بالمنصب منصب الحكم فانظر هل هو كذلك . ( قوله : وتباع أيضا البسط ) ظاهره وإن كان ذا منصب وانظر هل يأتي فيه ما مر في المركوب . ( قوله : فوق ما يليق بمثله ) أي : في حال الإفلاس ليوافق ما مر وإن كان خلاف الظاهر . ( قوله : والضمير في له عائد على لفظ من إلخ ) لا يوافق ما سلكه أولا في حل المتن من إخراج نفس المفلس من مدلول من ولا ما أعقب به المتن هنا من قوله حال فلسه إلخ الصريح في أن الضمير لخصوص المفلس ، ثم إن هذا لعله بالنسبة إلى ما في المتن خاصة من دست ثوب وما بعده ، وإلا فمن البعيد أن يترك من ماله لنحو قريبه نحو الكتب ، إذ هو لا يجب عليه لو كان موسرا لقريبه مثل ذلك وإنما يجب له عليه النفقة والكسوة ونحوهما . ( قوله : المتطوع بالجهاد ) يعني غير المرتزق بقرينة ما قبله [ ص: 330 ] فيشمل من تعين عليه حتى يتأتى الاستثناء ( قوله : واستدل له الأذرعي ) الأذرعي إنما ذكر هذا دفعا لاستبعاد الحكم ، ولم يذكره على وجه الاستدلال ; إذ لا دليل فيه لما نحن فيه ، وعبارته : وليس ببعيد ، وقد أوجبوا على الكسوب كسب نفقة الزوجة والقريب إلخ . ( قوله : ليس لإيفاء الدين ) أي : وهو حينئذ غير خاص بالمفلس . ( قوله : وإنما يفكه القاضي ) ظاهره وإن حصل وفاء الديون أو الإبراء منها مثلا ، ولعل وجهه احتمال ظهور غريم آخر كما عللوا به عدم إفادة رضا الغرماء فليراجع




                                                                                                                            الخدمات العلمية