ذكر أبي مضر إفريقية وهربه إلى العراق وما كان من أمره ولاية
في هذه السنة ، مستهل شهر رمضان ، ولي أبو مضر زيادة الله بن ( أبي العباس بن ) عبد الله إفريقية ، بعد قتل أبيه ، فعكف على اللذات والشهوات وملازمة الندماء والمضحكين ، وأهمل أمور المملكة وأحوال الرعية ، وأرسل كتابا ، ( يوم ولي ) إلى عمه الأحول على لسان أبيه يستعجله ( في القدوم عليه ويحثه على السرعة ، فسار مجدا ولم يعلم بقتل أبي العباس ) ، فلما وصل قتله وقتل من قدر عليه من أعمامه وإخوته .
واشتدت شوكة أبي عبد الله الشيعي في أيامه ، وقوي أمره ، وكان الأحول قبالته ، فلما قتل صفت له البلاد ، ودانت له الأمصار والعباد ، فسير إليه زيادة الله جيشا مع
[ ص: 575 ] إبراهيم بن أبي الأغلب ، وهو من بني عمه ، بلغت عدتهم أربعين ألفا سوى من انضاف إليه ، فهزمه أبو عبد الله الشيعي على ما ذكرناه ( آنفا ) ، فلما اتصل بزيادة الله خبر الهزيمة علم أنه لا مقام له لأن هذا ( الجمع ) هو آخر ما انتهت قدرته إليه ، فجمع ما عز عليه من أهل ومال وغير ذلك وعزم على الهرب إلى بلاد الشرق ، وأظهر للناس أنه قد جاءه خبر ، ( هزيمة أبي عبد الله الشيعي ) ، وأمر بإخراج رجال من الحبس ، فقتلهم ، وأعلم خاصته حقيقة الحال ، وأمرهم بالخروج معه .
فأشار عليه أهل دولته بأن لا يفعل ولا يترك ملكه .
قال لهم : إن أبا عبد الله لا يجسر عليه فشتمه ، ورد عليه رأيه ، وقال : أحب الأشياء إليك أن يأخذني بيدي .
وانصرف كل واحد من خاصته وأهله يتجهز للمسير معه ، وأخذ ما أمكنه حمله .
وكانت دولة آل ( الأغلب بإفريقية ) قد طالت مدتها ، وكثرت عبيدها ( وقوي سلطانها ) ، وسار عن إفريقية إلى مصر في سنة ست وتسعين ومائتين واجتمع معه خلق عظيم ، فلم يزل سائرا حتى وصل طرابلس ، فدخلها ، فأقام بها تسعة عشر يوما ، ورأى بها أبا العباس أخا أبي عبد الله الشيعي ، وكان محبوسا بالقيروان ، حبسه زيادة الله ، فهرب إلى طرابلس ، فلما رآه أحضره وقرره : هل هو أخو أبي عبد الله ؟ فأنكر وقال : أنا رجل تاجر قيل عني ، ( إنني أخو أبي عبد الله ) فحبستني .
فقال له زيادة الله : أنا أطلقك فإن كنت صادقا في أنك تاجر فلا نأثم فيك ، وإن كنت كاذبا ، وأنت أخو
[ ص: 576 ] أبي عبد الله ، فليكن للصنيعة عندك موضع ، وتحفظنا فيمن خلفناه . وأطلقه .
وكان من كبار أهله وأصحابه إبراهيم بن أبي الأغلب ، فأراد قتله وقتل رجل آخر كانا قد عرضا أنفسهما على ولاية القيروان ، فعلما ذلك ، وهربا إلى مصر ، وقدما على العامل بها وهو عيسى النوشري ، فتحدثا معه ، وسعيا بزيادة الله وقالا له : إنه يمني نفسه بولاية مصر ، فوقع ذلك في نفسه ، وأراد منعه عن دخول مصر إلا بأمر الخليفة من بغداذ ، فوصل زيادة الله ليلا ، وعبر الجسر إلى الجيزة قهرا ، فلما رأى ذلك النوشري لم يمكنه منعه ، فأنزله بدار ابن الجصاص ، ونزل أصحابه في مواضع كثيرة ، فأقام ثمانية أيام ، ورحل يريد بغداذ ، فهرب عنه أصحابه ، وفيهم غلام له ، ( وأخذ منه مائة ) ألف دينار فأقام عند النوشري ، فأرسل النوشري إلى الخليفة ، وهو المقتدر بالله ، يعرفه حال زيادة الله وحال من تخلف عنه بمصر ، فأمره برد من تخلف عنه إليه مع المال ، ففعل .
وسار زيادة الله حتى بلغ الرقة وكتب إلى الوزير وهو ابن الفرات يسأله في الإذن له لدخول بغداذ ، فأمره بالتوقف ، فبقي على ذلك ( سنة ) ، فتفرق عنه أصحابه ، وهو مع هذا مدمن الخمر ، واستماع الملاهي ، وسعي به إلى المقتدر ، وقيل له يرد إلى المغرب يطلب بثأره ، فكتب إليه بذلك وكتب إلى النوشري بإنجاده بالرجال والعدد والأموال من مصر ليعود إلى المغرب فعاد إلى مصر ، فأمره النوشري بالخروج إلى ذات الحمام ليكون هناك إلى أن يجتمع إليه ما يحتاج إليه من الرجال والمال ، ففعل ، ( ومطله ) ، فطال مقامه ، وتتابعت به الأمراض .
وقيل بل سمه بعض غلمانه ، فسقط شعر لحيته ، فعاد إلى مصر ، وقصد البيت
[ ص: 577 ] المقدس ، فتوفي بالرملة ودفن بها .
فسبحان الحي الذي لا يموت ، ولا يزول ملكه ولم يبق بالمغرب من بني الأغلب أحد ، وكانت مدة ملكهم مائة سنة واثنتي عشرة سنة ، وكانوا يقولون إننا نخرج إلى مصر والشام ، ونربط خيلنا في زيتون فلسطين ، فكان زيادة الله هو الخارج إلى فلسطين على هذه الحال لا على ما ظنوه .