الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر عبور الموفق إلى مدينة صاحب الزنج

وفيها عبر الموفق إلى مدينة الخبيث لست بقين من ذي الحجة ; وكان سبب ذلك أن جماعة من قواد الخبيث لما رأوا ما حل بهم من البلاء من قبل من يظهر منهم ، وشدة الحصار على من لزم المدينة ، وحال من خرج بالأمان ، جعلوا يهربون من كل وجه ، ويخرجون إلى الموفق بالأمان .

فلما رأى الخبيث ذلك جعل على الطرق التي يمكنهم الهرب منها من يحفظها ، فأرسل جماعة من القواد إلى الموفق يطلبون الأمان ، وأن يوجه لمحاربة الخبيث جيشا ليجدوا طريقا إلى المصير إليه ، فأمر ابنه أبا العباس بالمسير إلى النهر الغربي ، وبه علي بن أبان ( يحميه فنهض أبو العباس ومعه الشذوات ، والسميريات ، والمعابر ، [ ص: 387 ] فقصده ، وتحارب هو وعلي بن أبان ) ، واشتدت الحرب ، واستظهر أبو العباس على الزنج ، وأمد الخبيث أصحابه بسليمان بن جامع في جمع كثير ، فاتصلت الحرب من بكرة إلى العصر ، وكان الظفر لأبي العباس ، ( وصار إليه القوم الذين طلبوا الأمان .

واجتاز أبو العباس ) بمدينة الخبيث عند نهر الأتراك ، فرأى قلة الزنج هناك ، فطمع فيهم ، فقصدهم أصحابه وقد انصرف أكثرهم إلى الموفقية ، فدخلوا ذلك المسلك ، ( وصعد جماعة منهم السور وعليه فريق من الزنج ، فقتلوهم وسمع العلوي ) فجهز أصحابه لحربهم ، فلما رأى أبو العباس اجتماعهم وحشدهم لحربه مع قلة أصحابه ، رحل فأرسل إلى الموفق يستمده ، فأتاه من خف من الغلمان ، فظهروا على الزنج فهزموهم .

وكان سليمان بن جامع لما رأى ظهور أبي العباس سار في النهر مصعدا في جمع كبير ، ثم أتى أصحاب أبي العباس من خلفهم ، وهم يحاربون من بإزائهم ، وخفقت طبوله ، فانكشف أصحاب أبي العباس ، ورجع عليهم من كان انهزم عنهم من الزنج ، فأصيب جماعة من غلمان الموفق وغيرهم ، فأخذ الزنج عدة أعلام ، وحامى أبو العباس عن أصحابه ، فسلم أكثرهم ثم انصرف .

وطمع الزنج بهذه الوقعة ، وشدت قلوبهم ، فأجمع الموفق على العبور إلى مدينتهم بجيوشه أجمع ، وأمر الناس بالتأهب ، وجمع المعابر ، والسفن وفرقها عليهم ، وعبر يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة ، وفرق أصحابه على المدينة ليضطر الخبيث إلى تفرقة أصحابه ، وقصد الموفق إلى ركن من أركان المدينة ، وهو أحصن ما فيها ، وقد أنزله الخبيث ابنه ، وهو أنكلاي ، وسليمان بن جامع ، وعلي بن أبان ، وغيرهم ، وعليه من المجانيق ، والآلات للقتال ما لا حد [ له ] .

فلما التقى الجمعان أمر الموفق غلمانه بالدنو من ذلك الركن ، وبينهم وبين ذلك السور نهر الأتراك ، وهو نهر عريض كثير الماء ، فأحجموا عنه ، فصاح بهم الموفق ، وحرضهم على العبور ، فعبروا سباحة ، والزنج ترميهم بالمجانيق ، والمقاليع ، والحجارة ، [ ص: 388 ] والسهام ، فصبروا حتى جاوزوا النهر ، وانتهوا إلى السور ، ولم يكن عبر معهم من الفعلة من كان أعد لهدم السور ، فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح ، وسهل الله تعالى ذلك ، وكان معهم بعض السلاليم ، فصعدوا على ذلك الركن ، ونصبوا علما من أعلام الموفق ، فانهزم الزنج عنه ، وأسلموه بعد قتال شديد ، وقتل من الفريقين خلق كثير ; ولما علا أصحاب الموفق السور أحرقوا ما كان عليه من منجنيق وقوس وغير ذلك .

وكان أبو العباس قصد ناحية أخرى ، فمضى علي بن أبان إلى مقاتلته ، فهزمه أبو العباس ، وقتل جمعا كثيرا من أصحابه ( ونجا علي ، ووصل ) أصحاب أبي العباس إلى السور ، فثلموا فيه ثلمة ، ودخلوه ، فلقيهم سليمان ابن جامع ، فقاتلهم حتى ردهم إلى مواضعهم ، ثم إن الفعلة وافوا السور فهدموه في عدة مواضع ، فعملوا على الخندق جسرا ، فعبر عليه الناس من ناحية الموفق ، فانهزم الزنج عن سور باب كانوا قد اعتصموا به ، وانهزم الناس معهم ، وأصحاب الموفق يقتلونهم ، حتى انتهوا إلى نهر ابن سمعان ، وقد صارت دار ابن سمعان في أيدي أصحاب الموفق ، فأحرقوها ، وقاتلهم الزنج هناك ، ثم انهزموا حتى بلغوا ميدان الخبيث ، فركب في جمع من أصحابه ، فانهزم أصحابه عنه ، وقرب منه بعض رجالة الموفق ، فضرب وجه فرسه بترسه ، وكان ذلك مع مغيب الشمس ، فأمر الموفق الناس بالرجع ، فرجعوا ومعهم من رءوس أصحاب الخبيث شيء كثير .

وكان قد استأمن إلى أبي العباس أول النهار نفر من قواد الخبيث ، فتوقف عليهم حتى حملهم في السفن ، وأظلم الليل ، وهبت ريح عاصف ، وقوي الجزر ، فلصق أكثر السفن بالطين ، فخرج جماعة من الزنج فنالوا منها ، وقتلوا فيها نفرا ، وكان بهبود بإزاء مسرور البلخي ، فأوقع بأصحاب مسرور ، وقتل منهم جماعة ، وأسر جماعة ، فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفق .

وكان بعض أصحاب الخبيث قد انهزم على وجهه نحو نهر الأمير ، والقندل ، وعبادان ، وهرب جماعة من الأعراب إلى البصرة ، وأرسلوا يطلبون الأمان فأمنهم الموفق ، [ ص: 389 ] وخلع عليهم ، وأجرى الأرزاق عليهم .

وكان ممن رغب في الأمان من قواد الفاجر ريحان بن صالح المغربي ، وكان من رؤساء أصحابه ، أرسل يطلب الأمان ، وأن يرسل جماعة إلى مكان ذكره ليخرج إليهم ففعل الموفق ، فصار إليه فخلع عليه ، وأحسن إليه ووصله ، وضمه إلى أبي العباس ، واستأمن من بعده جماعة من أصحابه ; وكان خروج ريحان لليلة بقيت من ذي الحجة من السنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية