الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3699 392 - حدثني محمد ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال : أقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وهو مردف أبا بكر ، وأبو بكر شيخ يعرف ، ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - شاب لا يعرف ، قال : فيلقى الرجل أبا بكر فيقول : يا أبا بكر ، من هذا الرجل الذي بين يديك ؟ فيقول : هذا الرجل يهديني السبيل ، قال : فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق ، وإنما [ ص: 52 ] يعني سبيل ، الخير فالتفت أبو بكر ، فإذا هو بفارس قد لحقهم ، فقال : يا رسول الله ، هذا فارس قد لحق بنا ، فالتفت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : اللهم اصرعه ، فصرعه الفرس ، ثم قامت تحمحم ، فقال : يا نبي الله ، مرني بم شئت قال : فقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا قال : فكان أول النهار جاهدا على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان آخر النهار مسلحة له ، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جانب الحرة ، ثم بعث إلى الأنصار ، فجاؤوا إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، فسلموا عليهما ، وقالوا : اركبا آمنين مطاعين ، فركب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر ، وحفوا دونهما بالسلاح ، فقيل في المدينة : جاء نبي الله ، جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأشرفوا ينظرون ويقولون : جاء نبي الله جاء نبي الله ، فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب ، فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام ، وهو في نخل لأهله يخترف لهم ، فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها ، فجاء وهي معه ، فسمع من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع إلى أهله ، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : أي بيوت أهلنا أقرب ؟ فقال أبو أيوب : أنا يا نبي الله ، هذه داري ، وهذا بابي قال : فانطلق فهيئ لنا مقيلا ، قال : قوما على بركة الله تعالى ، فلما جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم - جاء عبد الله بن سلام ، فقال : أشهد أنك رسول الله ، وأنك جئت بحق ، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم ، وأعلمهم وابن أعلمهم ; فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت ، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في ، فأرسل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبلوا ، فدخلوا عليه ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا معشر اليهود ، ويلكم اتقوا الله ، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا ، وأني جئتكم بحق فأسلموا ، قالوا : ما نعلمه قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - قالها ثلاث مرار ، قال : فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام ؟ قالوا : ذاك سيدنا وابن سيدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا ، قال : أفرأيتم إن أسلم ؟ قالوا : حاشى لله ما كان ليسلم ، قال : أفرأيتم إن أسلم ؟ قالوا : حاشى لله ما كان ليسلم قال : أفرأيتم إن أسلم ؟ قالوا : حاشى لله ما كان ليسلم قال : يا ابن سلام ، اخرج عليهم ، فخرج فقال : يا معشر اليهود ، اتقوا الله ، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، وأنه جاء بحق فقالوا له : كذبت فأخرجهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " أقبل نبي الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - إلى المدينة ، وإقباله إليها هو هجرته ، وشيخه محمد الذي ذكره مجردا هو محمد بن سلام ، وقال أبو نعيم في مستخرجه : أظن أنه محمد بن المثنى ، وعبد الصمد يروي عن أبيه عبد الوارث بن سعيد البصري ، والحديث من أفراده .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وهو مردف " الواو فيه للحال ، وقال الداودي : يحتمل أنه مرتدف خلفه على الراحلة التي هو عليها ، ويحتمل أن يكون على راحلة أخرى وراءه ، قال الله تعالى : بألف من الملائكة مردفين أي يتلو بعضهم بعضا ، واعترض عليه ابن التين بأن الاحتمال الثاني غير صحيح ; لأنه يلزم منه أن يمشي أبو بكر بين يدي النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأجاب بعضهم عن هذا بأنه إنما يلزم ذلك لو كان الخبر جاء بالعكس ، كأن يقول : والنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - مرتدف خلف أبي بكر ، وأما عن لفظ : وهو مردف فلا ، ( قلت ) : في كل كلامي المعترض ، والمجيب نظر ; أما كلام المعترض [ ص: 53 ] فلا نسلم فيه الملازمة التي ذكرها ، ولئن سلمنا فماذا يترتب إذا مشى أبو بكر بين يدي النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بل هو المطلوب عند الملوك ، وأكابر الناس ، ولا ثمة ملك ولا كبير أشرف من النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولا أجل قدرا ، وأما كلام المجيب فإنه يسقط بسقوط الاعتراض .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وأبو بكر شيخ يعرف " أما كونه شيخا فلأنه قد شاب ، ومع هذا فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أسن من أبي بكر على الصحيح ، لكن كان شعر أبي بكر أبيض ، وأكثر بياضا من شعر رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأما كونه يعرف فلأنه كان يمر على أهل المدينة في سفر التجارة بخلاف النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - . قوله : " يهديني السبيل " ، وسبب هذا القول ما ذكره ابن سعد في رواية له : أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال لأبي بكر : أله الناس عني ، فكان إذا سئل من أنت ؟ قال : باغي حاجة ، فإذا قيل : من هذا ؟ قال : هاد يهديني ، يريد الهداية في الدين ، ويحسبه الآخر دليلا .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ويحسب " : أي يظن . قوله : " فقال يا رسول الله ، هذا فارس " ، هو سراقة بن مالك بن جعشم . قوله : " ثم قامت تحمحم " من الحمحمة بالمهملتين ، وهي صوت الفرس ، وقال ابن التين : في هذا الكلام نظر ; لأن الفرس إن كانت أنثى فلا يجوز فصرعه ، وإن كان ذكرا فلا يقال : ثم قامت ، وقال بعضهم : وإنكاره من العجائب ، والجواب أنه ذكر باعتبار لفظ الفرس ، وأنث باعتبار ما في نفس الأمر من أنها كانت أنثى انتهى .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) : الجواب الذي يقال ما قاله أهل اللغة ، منهم الجوهري : الفرس يقع على الذكر والأنثى ، ولم يقل أحد : إنه يذكر باعتبار لفظه ، ويؤنث باعتبار أنها كانت أنثى ، فهذا الذي ذكره على قوله يمشي في غير الفرس أيضا ، ولكن لم يقل به أحد ، ولا له وجه .

                                                                                                                                                                                  قوله : " لا تتركن أحدا يلحق بنا " هو كقولهم : لا تدن من الأسد يهلكك ، قال الكرماني : وهو ظاهر على مذهب الكسائي ، ولم يبين ذلك ، ( قلت ) : هذا المثال غير صحيح عند غير الكسائي ; لأن فيه فساد المعنى ; لأن انتفاء الدنو ليس سببا للهلاك ، والكسائي يجوز هذا ; لأنه يقدر الشرط إيجابيا في قوة إن دنوت من الأسد يهلكك ، وتحقيقه يعرف في موضعه . قوله : " مسلحة له " : أي يدفع عنه الأذى ، وقال الكرماني : المسلحة بفتح الميم صاحب السلاح .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) : فيه ما فيه قال الجوهري : المسلحة قوم ذوو سلاح ، والمسلحة كالثغر والمرقب ، وقال ابن الأثير : المسلحة القوم الذين يحفظون الثغور من العدو ، وسموا مسلحة ; لأنهم يكونون ذوي سلاح ، أو لأنهم يسكنون المسلحة ، وهي كالثغر ، والمرقب يكون فيه أقوام يرقبون العدو ; لئلا يطرقهم على غفلة ، فإذا رأوه أعلموا أصحابهم ليتأهبوا له ، والجمع مسالح .

                                                                                                                                                                                  قوله : " عليهما " : أي على النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر رضي الله تعالى عنه . قوله : " آمنين " تثنية آمن ، نصب على الحال ، وكذا قوله : " مطاعين " تثنية مطاع ، نصب على الحال ، إما من المتداخلة أو المترادفة . قوله : " وحفوا دونهما " : أي أحدقوهما بالسلاح ، قال الله تعالى : وترى الملائكة حافين من حول العرش أي محدقين . قوله : " فأقبل " : أي رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - . قوله : " يسير " حال : أي أقبل حال كونه سائرا . قوله : " فإنه ليحدث أهله الضمير في إنه يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . قوله : " إذ سمع " كلمة إذ للمفاجأة . قوله : " وهو في نخل " الواو فيه للحال . قوله : " يخترف لهم " بالخاء المعجمة وبالفاء : أي يجتني من الثمار . قوله : " فعجل " : أي استعجل . قوله : " لهم " : أي لأهله . قوله : " فيها " : أي في النخل ، النخل والنخيل بمعنى ، والواحدة نخلة . قوله : " فجاء وهي معه " ، الواو فيه للحال : أي الثمرة التي اجتناها معه ، ويروى : وهو معه : أي الذي اجتناه . قوله : " أهلنا " إنما قال - صلى الله عليه وسلم - أهلنا لقرابة ما بينهم من النساء ; لأن جدته والدة عبد المطلب ، وهي سلمى بنت عمرو منهم، أي من بني مالك بن النجار ، ولهذا جاء في حديث البراء أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - نزل على أخواله أو أجداده من بني النجار .

                                                                                                                                                                                  قوله : " مقيلا " : أي مكانا يقيل فيه ، والمقيل أيضا النوم نصف النهار ، وقال الأزهري : القيلولة ، والمقيل الاستراحة نصف النهار كان معها نوم أو لا ; بدليل قوله تعالى : وأحسن مقيلا والجنة لا نوم فيها ، يقال : قلت أقيل قائلة وقيلولة ومقيلا ، قال الداودي : فهي لنا مقيلا يعني دار أبي أيوب رضي الله تعالى عنه . قوله : " فلما جاء نبي الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : أي إلى منزل أبي أيوب ، جاء عبد الله بن سلام إليه . قوله : " قالوا في " بتشديد الياء في الموضعين . قوله : " فدخلوا عليه " : أي على النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بعد أن خبأ عبد الله بن سلام ، وفي رواية يحيى بن عبد الله ، فأدخلني في بعض بيوتك ، ثم سلهم عني ; فإنهم إن علموا بذلك بهتوني وعابوني قال : فأدخلني بعض بيوته . قوله : " قال : يا ابن سلام : أي قال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يا عبد الله بن سلام ، اخرج عليهم ، إنما قال : عليهم دون لهم ; لأنه صار عدوا لهم بإسلامه ومفارقته إياهم . قوله : " فأخرجهم " : أي من عنده .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 54 ]



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية