الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3811 80 - حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، قال عمرو : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله ؟ فقام محمد بن مسلمة فقال : يا رسول الله ، أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم . قال : فأذن لي أن أقول شيئا ! قال : قل . فأتاه محمد بن مسلمة فقال : إن هذا الرجل قد سألنا صدقة ، وإنه قد عنانا ، وإني قد أتيتك أستسلفك ! قال : وأيضا والله لتملنه ! قال : إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه ، وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين .

                                                                                                                                                                                  وحدثنا عمرو غير مرة فلم يذكر وسقا أو وسقين ، فقلت له : فيه وسقا أو وسقين ؟ فقال : أرى فيه وسقا أو وسقين ! فقال : نعم ، ارهنوني ! قالوا : أي شيء تريد ؟ قال : ارهنوني نساءكم ! قالوا : كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ! قال : فارهنوني أبناءكم ! قالوا : كيف نرهنك [ ص: 132 ] أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن بوسق أو وسقين ! هذا عار علينا ، ولكنا نرهنك اللأمة - قال سفيان : يعني السلاح - فواعده أن يأتيه ، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة ، فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم ، فقالت له امرأته : أين تخرج هذه الساعة ؟ فقال : إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة ! وقال غير عمرو : قالت أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم ! قال : إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة ، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب ! قال : ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين ، قيل لسفيان : سماهم عمرو ، وقال : سمى بعضهم . قال عمرو : جاء معه برجلين . وقال غير عمرو : أبو عبس بن جبر والحارث بن أوس وعباد بن بشر . قال عمرو : جاء معه برجلين ، فقال : إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه ، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه . وقال مرة : ثم أشمكم ، فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب ، فقال : ما رأيت كاليوم ريحا - أي أطيب . وقال غير عمرو : قال عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب . قال عمرو : فقال أتأذن لي أن أشم رأسك ؟ قال : نعم - فشمه ثم أشم أصحابه ، ثم قال : أتأذن لي ؟ قال : نعم - فلما استمكن منه قال : دونكم - فقتلوه ، ثم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  فيه كيفية قتل كعب ، وهي المطابقة بين الترجمة والحديث ، وعلي بن عبد الله هو ابن المديني ، وسفيان هو ابن عيينة ، وعمرو هو ابن دينار ، والحديث مضى مختصرا بهذا الإسناد في باب رهن السلاح .

                                                                                                                                                                                  قوله " حدثنا سفيان ، قال عمرو " ، وفي رواية قتيبة عن سفيان في الجهاد " عن سفيان ، حدثنا عمرو " .

                                                                                                                                                                                  قوله " من لكعب بن الأشرف " ; أي من يستعد لقتله ومن الذي ينتدب إليه ؟

                                                                                                                                                                                  قوله " فإنه قد آذى الله ورسوله "، هذه كناية عن مخالفة الله تعالى ومخالفة نبيه صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله " فقام محمد بن مسلمة " بفتح الميم واللام - ابن سلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس ، حليف لبني عبد الأشهل ، شهد بدرا والمشاهد كلها ، ومات بالمدينة في صفر سنة ثلاث وأربعين ، وقيل ست وأربعين ، وقيل سنة سبع وأربعين - وهو ابن سبع وسبعين سنة ، وصلى عليه مروان بن الحكم وهو كان يومئذ أمير المدينة ، وكان من فضلاء الصحابة ، واستخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة في بعض غزواته ، وقيل إنه استخلفه في غزوة قرقرة الكدر ، وقيل إنه استخلفه عام تبوك ، واعتزل الفتنة واتخذ سيفا من خشب وجعله في سفن ، وذكر أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أمره بذلك ، ولم يشهد الجمل ولا صفين وأقام بالربذة .

                                                                                                                                                                                  قوله " أتحب " ، الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار .

                                                                                                                                                                                  قوله " فأذن لي أن أقول شيئا " ; يعني مما يسر كعبا .

                                                                                                                                                                                  قوله " قال : قل " ; أي قال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لمحمد بن مسلمة قل ، وفي رواية محمد بن إسحاق " فقال : يا رسول الله ، لا بد لنا أن نقول ! فقال : قولوا ما بدا لكم ، فأنتم في حل من ذلك " .

                                                                                                                                                                                  قوله " فأتاه " ; أي أتى كعبا محمد بن مسلمة .

                                                                                                                                                                                  قوله " إن هذا الرجل " ; يعني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله " قد سألنا " بفتح الهمزة واللام ، فعل وفاعل ومفعول ، وصدقة بالنصب مفعول ثان ، وفي رواية الواقدي " سألنا الصدقة ونحن لا نجد ما نأكل " .

                                                                                                                                                                                  قوله " وإنه " ; أي وإن النبي صلى الله عليه وسلم " قد عنانا " بفتح العين المهملة وتشديد النون ; أي أتعبنا وكلفنا المشقة ، وقال الجوهري : عني بالكسر يعني عناء أي تعب ونصب ، وعنيته أنا تعنية وتعنيته أنا فتعنى .

                                                                                                                                                                                  قوله " قال : وأيضا " ; أي قال كعب وزيادة على ذلك .

                                                                                                                                                                                  قوله " لتملنه " بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد اللام والنون ، من الملالة ، ومعناه ليزيدن ملالتكم وضجركم عنه ، وفي رواية ابن إسحاق قال : كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء ; عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة ، وقطعت عنا السبل حتى جاع العيال وجهدت الأنفس ، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا ! فقال كعب بن الأشرف : أما والله لقد أخبرتكم أن الأمر سيصير إلى هذا !

                                                                                                                                                                                  قوله " أن ندعه " أي نتركه .

                                                                                                                                                                                  قوله " شأنه " ; أي حاله وأمره .

                                                                                                                                                                                  قوله " وسق " ، الوسق وقر بعير وهو ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله " أو وسقين " شك من الراوي [ ص: 133 ] وفي رواية عروة " وأحب أن تسلفنا طعاما ، قال : أين طعامكم ؟ قال : أنفقناه على هذا الرجل وأصحابه ! قال : ألم يأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل! " .

                                                                                                                                                                                  قوله " وحدثنا عمرو غير مرة " ، قيل قائل هذا علي بن المديني ، وقال الكرماني : أي قال سفيان حدثنا عمرو غير مرة ، أي مرارا ، وهذا هو الظاهر .

                                                                                                                                                                                  قوله " أرى فيه " ; أي أظن في الحديث .

                                                                                                                                                                                  قوله " ارهنوني " ; أي ادفعوا إلي شيئا يكون رهنا على التمر الذي تريدونه .

                                                                                                                                                                                  قوله " وأنت أجمل العرب " ; أي صورة ، والنساء يملن إلى الصور الحسان ، وفي رواية ابن سعد من مرسل عكرمة " ولأنا منك ، وأي امرأة تمنع منك لجمالك " ، وقال بعضهم : قالوا ذلك تهكما . قلت : مرسل عكرمة يرد هذا .

                                                                                                                                                                                  قوله " فيسب أحدهم " بضم الياء على صيغة المجهول .

                                                                                                                                                                                  قوله " اللأمة " بتشديد اللام ، وقد فسرها سفيان بأنها السلاح ، وقال غيره من أهل اللغة : اللأمة الدرع - فعلى هذا إطلاق السلاح عليها من إطلاق اسم الكل على البعض ، وفي مرسل عكرمة " ولكنا نرهنك سلاحنا مع علمك بحاجتنا إليه ! قال : نعم " .

                                                                                                                                                                                  قوله " فجاءه ليلا " ; أي فجاء محمد بن مسلمة كعبا في الليل والحال أن معه أبو نائلة - بنون ، وبعد الألف ياء آخر الحروف ساكنة ، وقيل بالهمزة بعد الألف ، واسمه سلكان - بكسر السين المهملة وسكون اللام - ابن سلامة بن وقش بن رغبة بن زعور بن عبد الأشهل الأنصاري الأشهلي ، ويقال سلكان لقب واسمه سعد ، شهد أحدا وكان من الرماة المذكورين من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وكان شاعرا .

                                                                                                                                                                                  قوله " وكان أخاه من الرضاعة " ; أي كان أبو نائلة أخا كعب من الرضاعة ، وذكر الواقدي أن محمد بن مسلمة أيضا كان أخاه من الرضاعة ، وزاد الحميدي في روايته " وكانوا أربعة ، سمى عمرو منهم اثنين ، والاثنان الآخران عباد بن بشر والحارث بن أوس " ، وقال ابن إسحاق : فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة بن وقش - وهو أبو نائلة الأشهلي - وعباد بن بشر بن وقش الأشهلي وأبو عبس بن جبر أخو بني حارثة والحارث بن أوس ، فهؤلاء خمسة .

                                                                                                                                                                                  قوله " وقال غير عمرو " ; أي قال سفيان قال غير عمرو بن دينار المذكور ، وبين الحميدي في روايته عن سفيان أن الغير الذي أبهمه سفيان في هذه القصة هو العبسي .

                                                                                                                                                                                  قوله " وأنه حدثه بذلك عن عكرمة مرسلا كأنه يقطر منه الدم " كناية عن صوت طالب شر وخراب ، وقال ابن إسحاق : لما انتهى هؤلاء إلى حصن كعب هتف به أبو نائلة ، وكان حديث عهد بعرس ، فوثب في ملحفة له ، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت : إلى أين في مثل هذه الساعة ؟ فقال : إنه أبو نائلة ، لو وجدني نائما أيقظني ! فقالت : والله إني لأعرف في صوته الشر ! فقال لها كعب : لو دعي الفتى إلى طعنة لأجاب ! ثم نزل .

                                                                                                                                                                                  قوله " فقال : إذا ما جاء " ; أي فقال محمد بن مسلمة " إذا ما جاء " كعب .

                                                                                                                                                                                  قوله " فإني قائل بشعره " ; أي فإني جاذب بشعره ، وقد استعملت العرب لفظ القول في موضع غيره من المعاني وأطلقوه على غير الكلام واللسان ، فيقول : قال بيده أي أخذ ، وقال برجله أي مشى ، وقال بالماء على يده أي قلب ، وقال بثوبه أي رفعه ، وكل ذلك على المجاز والاتساع .

                                                                                                                                                                                  قوله " ثم أشمكم " بضم الهمزة ، من الإشمام ; أي أمكنكم من الشم .

                                                                                                                                                                                  قوله " متوشحا " نصب على الحال من الضمير الذي في " نزل " ; أي ملتبسا بثوبه وسلاحه .

                                                                                                                                                                                  قوله " وهو ينفح منه ريح الطيب " جملة حالية ، و " ينفح " بالحاء المهملة معناه يفوح ، و " ريح الطيب " بالرفع فاعل " ينفح " .

                                                                                                                                                                                  قوله " ما رأيت كاليوم ريحا " ; أي ما رأيت ريحا أطيب في يوم مثل هذا اليوم .

                                                                                                                                                                                  قوله " قال غير عمرو " ; أي قال سفيان قال غير عمرو بن دينار " عندي أعطر نساء العرب " ، وفي رواية أخرى " عند أعطر سيد العرب " ، وكأن لفظ " سيد " تصحيف من " نساء " ، فإن كانت محفوظة فالمعنى أعطر نساء سيد العرب على الحذف ، أو المراد شخص أو مصاحب أعطر من سيدهم .

                                                                                                                                                                                  قوله " وأكمل العرب " ، وفي رواية الأصيلي " أجمل " بالجيم بدل الكاف ، وهذا أشبه .

                                                                                                                                                                                  قوله " دونكم " ; أي خذوه بأسيافكم .

                                                                                                                                                                                  قوله " فقتلوه " ، وفي رواية عروة " وضربه محمد بن مسلمة فقتله ، وأصاب ذباب السيف الحارث بن أوس ، وأقبلوا حتى إذا كانوا بجرف بعاث تخلف الحارث ونزف ، فلما افتقده أصحابه رجعوا فاحتملوه ثم أقبلوا سراعا حتى دخلوا المدينة " ، وفي رواية الواقدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفل على جرح الحارث بن أوس فلم يؤذه ، وفي رواية ابن الكلبي " فضربوه حتى برد ، وصاح عند أول ضربة ، واجتمعت اليهود فأخذوا على غير طريق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففاتوهم " ، وفي مرسل عكرمة " فأصبحت اليهود مذعورين ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : قتل سيدنا غيلة ! فذكر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صنيعه وما كان يحرض عليه ويؤذي المسلمين " ، وقال ابن سعد : فخافوا ولم ينطقوا . وذكر في كتاب شرف المصطفى أن الذين قتلوا كعب بن الأشرف حملوا رأسه في مخلاة إلى [ ص: 134 ] المدينة ، فقيل إنه أول رأس حمل في الإسلام ، وقيل أول رأس حمل رأس عمرو بن الحمق ، وقيل رأس أبي عزة الجمحي الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين !




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية