الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3813 82 - حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار ، فأمر عليهم عبد الله بن عتيك ، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعين عليه ، وكان في حصن له بأرض الحجاز ، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم ، فقال عبد الله لأصحابه : اجلسوا مكانكم ، فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل ! فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة ، وقد دخل الناس ، فهتف به البواب : يا عبد الله ، إن كنت تريد أن تدخل فادخل ، فإني أريد أن أغلق الباب ! فدخلت فكمنت ، فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأغاليق على وتد . قال : فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب ، وكان أبو رافع يسمر عنده ، وكان في علالي له ، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه ، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل . قلت : إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله ! فانتهيت إليه ، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت ، فقلت : يا أبا رافع ! قال : من هذا ؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش ، فما أغنيت شيئا ، وصاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد ، ثم دخلت إليه فقلت : ما هذا الصوت يا أبا رافع ؟ فقال : لأمك الويل ! إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف ! قال : فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله ، ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته ، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له ، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض ، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي ، فعصبتها بعمامة ، ثم انطلقت حتى جلست على الباب ، فقلت : لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته ! فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال : أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز ! فانطلقت إلى أصحابي فقلت : النجاء ! [ ص: 136 ] فقد قتل الله أبا رافع - فانتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثته ، فقال لي : ابسط رجلك . فبسطت رجلي فمسحها ، فكأنها لم أشتكها قط .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا طريق آخر أخرجه مطولا ، وفيه بيان قصة أبي رافع .

                                                                                                                                                                                  ويوسف بن موسى بن راشد بن بلال القطان الكوفي ، سكن بغداد ومات بها سنة اثنين وخمسين ومائتين ، وهو من أفراده . وعبيد الله بن موسى بن باذام أبو محمد العبسي الكوفي ، وهو أيضا شيخ البخاري ، روى عنه هنا بالواسطة . وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، يروي عن جده أبي إسحاق .

                                                                                                                                                                                  قوله " رجالا من الأنصار " ، قد سمى منهم في هذا الباب عبد الله بن عتيك ومسعود بن سنان وعبد الله بن أنيس وأبا قتادة وخزاعى بن أسود ، وإن كان عبد الله بن عتبة محفوظا فكانوا ستة ، وقد ترجمنا عبد الله بن عتيك ، وأما مسعود بن سنان فهو ابن سنان بن الأسود حليف لبني غنم بن سلمة من الأنصار ، شهد أحدا ، وقتل يوم اليمامة شهيدا . وعبد الله بن أنيس - بضم الهمزة وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف وبالسين المهملة - ابن أسعد بن حرام بن حبيب بن غنم بن كعب بن غنم بن نفاثة بن إياس بن يربوع بن البرك بن وبرة أخي كلب بن وبرة ، فالبرك بن وبرة دخل في جهينة ، وقال أبو عمر : عبد الله بن أنيس الجهني ثم الأنصاري حليف بني سلمة ، وقيل هو من جهينة حليف للأنصار ، وقيل هو من الأنصار ، توفي سنة أربع وخمسين ، شهد أحدا وما بعدها . وأبو قتادة الأنصاري فارس رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - اختلف في اسمه ; فقيل الحارث بن ربعي بن بلدهة - وقيل بلدمة - بن خناس بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري السلمي ، وقيل النعمان الربعي ، وقيل النعمان بن عمرو ، وقيل عمرو بن ربعي - واختلف في شهوده بدرا ; فقال بعضهم كان بدريا ، ولم يذكره ابن عقبة ولا ابن إسحاق في البدريين ، وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد كلها ، وعن الشعبي أن عليا رضي الله تعالى عنه كبر على أبي قتادة ستا وكان بدريا ، وعنه أنه كبر عليه سبعا وكان بدريا . وقال الحسن بن عثمان : مات أبو قتادة سنة أربعين ، وشهد مع علي رضي الله تعالى عنه مشاهده كلها في خلافته ، ومات بالكوفة وهو ابن سبعين سنة . وخزاعي - بضم الخاء المعجمة وتخفيف الزاي وبالعين المهملة - ابن أسود بن خزاعي الأسلمي حليف الأنصار ، ذكره الذهبي في تجريد الصحابة ، وقال : قيل له صحبة ، ولم يذكره أبو عمر في الصحابة ، وقيل بالقلب أسود بن خزاعي ، وقيل أسود بن حرام ، ذكره في الإكليل في حديث عبد الله بن أنيس ، وكذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي ، وذكر في دلائل البيهقي من طريق موسى بن عقبة على الشك هل هو أسود بن خزاعي أو أسود بن حرام ، وقال الذهبي في تجريد الصحابة : الأسود بن خزاعي ، وقيل خزاعي بن أسود ، أحد من قتل ابن أبي الحقيق ، ذكره ابن إسحاق ، وهو أسلمي من حلفاء بني سلمة الأنصاريين . وقال الذهبي أيضا : الأسود بن أبيض استدركه أبو موسى ، قيل هو أحد من بيت ابن أبي الحقيق ، وأما عبد الله بن عتبة فبالعين المضمومة وسكون التاء المثناة من فوق . وقال أبو عمر : عبد الله بن عتبة أبو قيس الذكواني ، مدني . وقال الذهبي : قيل له صحبة . وقال ابن الأثير في جامع الأصول : إنه ابن عنبة - بكسر العين وفتح النون ، وغلطه بعضهم بأنه خولاني لا أنصاري ومتأخر الإسلام ، وهذه القصة متقدمة ، وقال الذهبي : عبد الله بن عتبة أبو عتبة الخولاني ، نزل مصر . وقال بكر بن زرعة : له صحبة ، وقد صلى القبلتين وسمع من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله " فأمر عليهم " بتشديد الميم ، من التأمير .

                                                                                                                                                                                  قوله " وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم " لأنه كان ممن أعان غطفان وغيرهم من مشركي العرب بالمال الكثير على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله " وراح الناس بسرحهم " ; أي رجعوا بمواشيهم التي ترعى ، والسرح بفتح السين المهملة وسكون الراء وبالحاء المهملة ، وهي السائمة من إبل وبقر وغنم .

                                                                                                                                                                                  قوله " ثم تقنع بثوبه " ; أي تغطى به ليخفي شخصه لئلا يعرف .

                                                                                                                                                                                  قوله " فهتف به البواب " ; أي ناداه ، وفي رواية " فنادى صاحب الباب " ، فإن قلت : كيف قال البواب يا عبد الله ؟ فهذا يدل على أنه عرفه ، فلو عرفه لما مكنه من الدخول ، مع أنه كان مستخفيا منه ! قلت : لم يرد به اسمه العلم ، بل الظاهر أنه أراد به المعنى الحقيقي ; لأن الكل عبيد الله .

                                                                                                                                                                                  قوله " فكمنت " أي اختبأت [ ص: 137 ] وفي رواية يوسف " ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن " .

                                                                                                                                                                                  قوله " ثم علق الأغاليق " ، وهو بالغين المعجمة جمع غلق بفتح أوله ، وهو ما يغلق به الباب ، والمراد بها المفاتيح ، كأنه كان يغلق بها ويفتح بها - كذا في رواية أبي ذر ، وفي رواية غيره بالعين المهملة ، وفي التوضيح : هو جمع إغليق ، وهو المفتاح .

                                                                                                                                                                                  قوله " على وتد " ، ويروى " على ود " هو مدغم الوتد - قاله الكرماني ; يعني قلبت التاء دالا وأدغمت الدال في الدال ، وقال : هي مسمرة على الباب ، فكيف تعلق على الوتد ؟ قلت : يراد بها الأقاليد ، والإقليد كما يفتح به يغلق أيضا به .

                                                                                                                                                                                  قوله " يسمر عنده " على صيغة المجهول من المضارع ; أي يتحدثون عنده بعد العشاء ، وهو من السمر وهو الاقتصاص بالليل .

                                                                                                                                                                                  قوله " في علالي " جمع علية بضم العين المهملة وكسر اللام وتشديد الياء آخر الحروف وهي الغرفة ، وفي رواية ابن إسحاق " وكان في علية له عجلة " بفتح العين المهملة والجيم ، قال بعضهم : هي سلم من الخشب . وقال ابن الأثير : العجلة من نخل ينقر الجذع ويحمل فيه شبه الدرج .

                                                                                                                                                                                  قوله " نذروا " بكسر الذال ; أي علموا ، وأصله من الإنذار وهو الإعلام بالشيء الذي يحذر منه ، وذكر ابن سعد أن عبد الله بن عتيك كان يرطن باليهودية ، فاستفتح ، فقالت له امرأة أبي رافع : من أنت ؟ قال : جئت أبا رافع بهدية ! ففتحت له .

                                                                                                                                                                                  قوله " فأهويت نحو الصوت " ; أي قصدت نحو صاحب الصوت ، وفي رواية يوسف " فعمدت نحو الصوت " .

                                                                                                                                                                                  قوله " وأنا دهش " جملة اسمية وقعت حالا ، ودهش أي تحير وهو بفتح الدال وكسر الهاء وفي آخره شين معجمة .

                                                                                                                                                                                  قوله " فما أغنيت شيئا " ، يقال ما يغني عنك أي ما يجدي عنك وما ينفعك ، حاصل المعنى : لم أقتله .

                                                                                                                                                                                  قوله " لأمك الويل " دعاء عليه ، والويل مبتدأ ولأمك مقدما خبره .

                                                                                                                                                                                  قوله " أثخنته " ; أي أثخنت الضربة أبا رافع ، والحال أني لم أقتله أيضا .

                                                                                                                                                                                  قوله " ظبة السيف " ، وهو حرف حد السيف ، ويجمع على ظبات وظبين ، وأما الضبيب بفتح الضاد المعجمة وكسر الباء الموحدة الأولى على وزن رغيف فلا أدري له معنى يصح في هذا ، وإنما هو سيلان الدم من الفم ، يقال ضبت لثته ضبيبا . وقال الخطابي : هكذا يروى ، وما أراه محفوظا . وقال عياض : روى بعضهم الصبيب بالمهملة ، قال : وأظن أنه الطرف . قلت : هو رواية أبي ذر ، وكذا ذكره الحربي ، وقال الكرماني : لو كان بالذال المعجمة مصغر ذباب السيف وهو طرفه لكان ظاهرا ، وفي رواية يوسف " فأضع السيف في بطنه ثم أنكفئ عليه حتى أسمع صوت العظم " .

                                                                                                                                                                                  قوله " وأنا أرى " بضم الهمزة ; أي أظن ، وذكر ابن إسحاق في روايته أنه كان سيئ البصر .

                                                                                                                                                                                  قوله " فانكسرت ساقي فوثبت يده " ، قيل هو وهم ، والصواب رجله .

                                                                                                                                                                                  قوله " قام الناعي " بالنون والعين المهملة ، من النعي وهو خبر الموت ، والاسم الناعي .

                                                                                                                                                                                  قوله " أنعى أبا رافع " ، كذا ثبت في الروايات بفتح العين ، قال ابن التين : هي لغة ، والمعروف أنعوا .

                                                                                                                                                                                  قوله " النجاء " بالنصب ; أي أسرعوا .

                                                                                                                                                                                  قوله " فكأنها " أي فكأن رجلي " لم أشتكها " ، من الشكاية .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية