( و ) ينبغي ( أن لا يتكلم في المجالس التي لا إنصاف فيها ) قال في الواضح : [ ص: 586 ] فصل : قال العلماء : احذر ، فإن الخوف يذهل العقل الذي منه يستمد المناظر حجته ، ويستقي منه الرأي في دفع شبهات الخصم ، وإنما يذهله ويشغله بطلبه حراسة نفسه ، التي هي أهم من مذهبه ودليل مذهبه ، فاجتنب مكالمة من تخاف ، فإنها مميتة للخواطر ، مانعة من التثبت ، واحذر مكالمة من اشتد بغضك إياه ، فإنها داعية إلى الضجر والغضب ، من قلة ما يكون منه والضجر ، والغضب مضيق للصدر ، ومضعف لقوى العقل ، واحذر المحافل التي لا إنصاف فيها في التسوية بينك وبين خصمك في الإقبال والاستماع ، ولا أدب لهم يمنعهم من الشرع إلى الحكم عليك ، ومن إظهار العصبية لخصمك . الكلام في مجالس الخوف
والاعتراض يخلق الكلام ، ويذهب بهجة المعاني بما يلجأ إليه من كثرة الترداد . ومن ترك الترداد مع الاعتراض : انقطع كلامه وبطلت معانيه ، واحذر استصغار خصمك ، فإنه يمنع من التحفظ ، ويثبط عن المغالبة ، ولعل الكلام يحكى فيعتد عليك بالتقصير ، واحذر كلام من لا يفهم عنك ، فإنه يضجرك ويغضبك إلا أن يكون له غريزة صحيحة ، ويكون الذي بطأ به عن الفهم فقد الاعتياد ، فهذا خليل مسترشد فعلمه ، وليس بخصم فتجادله وتنازعه . وقدر في نفسك الصبر والحلم لئلا تستفزك بغتات الإغضاب ، فلو لم يكن في الحلم خاصة تجتلب ، لكانت معونة على المناظرة توجب إضافته إليها ، ومع هذا فليس يسلم أحد من الانقطاع إلا من قرنه الله - تعالى - بالعصمة من الزلل ، وليس حد العالم : أن يكون حاذقا بالجدل ، فالعلم بضاعة ، والجدل صناعة ، إلا أن مادة الجدل والمجادل تحتاج إلى العالم ، والعالم لا يحتاج في علمه إلى المجادل ، كما يحتاج المجادل في جدله إلى العالم . وليس حد الجدل بالمجادلة : أن لا ينقطع المجادل أبدا ، أو لا يكون منه انقطاع كثير إذا كثرت مجادلته . ولكن المجادل : من كان طريقه في الجدل محمودا ، وإن ناله الانقطاع لبعض الآفات التي تعرف .