( باب ترتيب الأدلة ، والتعادل ، والتعارض ، والترجيح ) اعلم أنه لما انتهى الكلام في مباحث أدلة الفقه المتفق عليها ، وكانت الأدلة المختلف فيها ربما تعارض منها دليلان باقتضاء حكمين متضادين ، وكان من موضوع نظر المجتهد وضروراته : ترجيح أحدهما ، احتيج إلى ذكر ما يحصل به معرفة الترتيب والتعادل والتعارض ، والترجيح ، وحكم كل منها . وذلك إنما يقوم به من هو أهل لذلك ، وهو المجتهد ، فلذلك قدم الموفق والآمدي وابن الحاجب وابن مفلح وغيرهم باب الاجتهاد على هذا الباب ، وإنما جاز دخول التعارض في أدلة الفقه لكونها ظنية . إذا تقرر هذا ف ( هو ( جعل كل واحد من شيئين فأكثر في رتبته التي يستحقها ) أي يستحق جعله فيها بوجه من الوجوه . وأدلة الشرع : الكتاب والسنة والإجماع والقياس ونحوه . الترتيب )
( فيقدم ) من جميع ذلك ( إجماع ) على باقي الأدلة لوجهين . أحدهما : كونه قاطعا معصوما من الخطإ . الوجه الثاني : كونه آمنا من النسخ والتأويل ، بخلاف باقي الأدلة ، وهو أنواع . أحدها : الإجماع النطقي المتواتر ، وهو أعلاها ، ثم يليه الإجماع النطقي الثابت بالآحاد ، ثم يليه الإجماع السكوتي المتواتر ، ثم يليه الإجماع السكوتي الثابت بالآحاد ، فهذه الأنواع الأربعة كلها مقدمة على باقي الأدلة ثم ( سابق ) يعني أنه إذا نقل إجماعان متضادان ، فالمعمول به منهما : هو السابق من الإجماعين . فيقدم إجماع الصحابة على إجماع التابعين ، وإجماع التابعين على من بعدهم ، وهلم جرا ; لأن السابق دائما أقرب إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم المشهود له بالخيرية في قوله { } فإن فرض في عصر واحد إجماعان ، فالثاني باطل ; لأن كل من اجتهد من المتأخرين فقوله باطل [ ص: 633 ] لمخالفته الإجماع السابق ، فإن كان أحد الإجماعين مختلفا فيه ، والآخر متفقا عليه ، فالمتفق عليه مقدم ، وكذلك ما كان الخلاف في كونه إجماعا أضعف . خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم
فإنه يقدم على ما كان الخلاف في كونه إجماعا أقوى ، وإلى ذلك أشير بقوله ( ومتفق عليه أو أقوى ) قال ابن مفلح : وما اتفق عليه أو ضعف الخلاف فيه أولى . انتهى . وكذلك إجماع لم يسبقه اختلاف مقدم على إجماع سبق فيه اختلاف ثم وقع الإجماع . وقيل : عكسه ( وأعلاه ) أي الإجماع : إجماع ( متواتر نطقي ، فآحاد ) أي فالنطقي الثابت بالآحاد ( فسكوتي كذلك ) أي : فإجماع سكوتي متواتر ، فسكوتي ثابت بالآحاد . وتقدم معنى ذلك قريبا في الشرح ( فالكتاب ومتواتر السنة ) يعني أنه يلي الإجماع من حيث التقديم : القرآن ومتواتر السنة لقطعيتهما ، فيقدمان على باقي الأدلة ; لأنهما قاطعان من جهة المتن ، ولهذا جاز نسخ كل منهما بالآخر على الأصح ; لأن كلا منهما وحي من الله تعالى ، وإن افترقا من حيث إن القرآن نزل للإعجاز ، ففي الحقيقة هما سواء . وقيل : يقدم الكتاب ; لأنه أشرف ، وقيل : السنة لقوله تعالى " لتبين للناس ما نزل إليهم " أما المتواتران من السنة : فمتساويان قطعا ، ثم يلي ذلك في التقديم من باقي الأدلة ما أشير إليه بقوله ( فآحادها ) أي : آحاد السنة ( على مراتبها ) أي : مراتب الآحاد ، وأعلاها : الصحيح ، فيقدم على غيره ، ثم الحسن ، فيقدم على غيره ، ثم الضعيف . وهو أصناف كثيرة . وتتفاوت مراتب كل من الصحيح والحسن ، والضعيف ، فيقدم من كل من ذلك ما كان أقوى ( فقول صحابي ) يعني أنه يلي ضعيف آحاد السنة في التقديم : قول الصحابي ( فقياس ) بعد ذلك كله .