تأمل في مقلدة المذاهب كيف أقروا على أنفسهم بتقليد الأموات من العلماء، والأولياء، واعترفوا بأن فهم الكتاب والسنة كان خاصا بهم، واستدلوا لإشراكهم في الصلحاء بعبارات القوم، ومكاشفات الشيوخ في النوم، ورجحوا كلام الأمة والأئمة على كلام الله تعالى، ورسوله، على بصيرة منهم، وعلى علم.
فما ندري ما عذرهم عن ذلك غدا يوم الحساب والكتاب؟ وما ينجيهم من ذلك العذاب والعقاب؟
وقد ذكر تعالى عن الكفار: أنهم يخلصون الدين لله تارة، ويشركون تارة.
وأهل زماننا اليوم فهم أخف شركا، وأيسر كفرا من أهل زماننا هذا. إذا جاءتهم شدة، تركوا الله، ودعوا فلانا، وفلانا، واستغاثوا بهم في البر، والبحر،
رحم الله من تفكر في قوله تعالى: وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا [الإسراء:67]. [ ص: 191 ]
ففي هذه الآية الكريمة عبرة عظيمة لمن اعتبر، وفكرة واضحة لمن فكر، وذكر، ومثل هذه في الكتاب كثيرة.
ولكن الرجل إذا لم يرفع رأسه إلى القرآن، ولم يتل يوما من الدهر آية من الفرقان، فلا معالجة.
ومن صار أسيرا للتقليد، وعبدا للعبيد، وقنع من الإسلام بالاسم، ومن الدين بالرسم، واعتقد أن الإيمان هو الذي في كتب المقلدة، والمتكلمة، وملفوظات الصوفية، وصحائف الفروع الفقهية المختلفة، التي لا سند لها من أدلة الحديث، والكتاب، فعلى نفسها براقش تجني، نعم لا مهدي إلا من هداه الله.
ومن من الله عليه بالعقل المستقيم، والقلب السليم، فليحمد الله على هدايته له إلى الإسلام.
وإن أشكل عليه شيء في الدين، فليسأل أهل الذكر، وهم العارفون بمعاني كتاب الله، والشارحون لحديث رسوله؛ كما قال تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [النحل: 43].
والذكر اسم من أسماء القرآن والسنة تلوه، فشملت الآية علماء الحديث والتنزيل.
وينبغي ألا يبادر بالإنكار، بل يعلم أن جحده ورده إنما هو رد على الله، وعلى رسوله المختار.
قال تعالى: ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [الكهف: 57].
وحيث إن الشرك أخفى من دبيب النمل، ابتلي به بعض من لم يتفطن له، وأفصح به في مقالاته على جهل منه؛ كما وقع من صاحب البردة في قوله: [ ص: 192 ]
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وفي الهمزية من هذا الجنس شيء كثير.وتبعهما جمع جم من الشعراء بالعربية والفارسية في دواوينهم، وقصائدهم، وغزلياتهم، ونظمهم، ونثرهم.
ففاهوا في بيان مدائح النبي صلى الله عليه وسلم بما تقشعر منه الجلود، ويميع عنده صم الصخور.
وهو صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- لا يحتاج في كمالاته، وثبوت أوصافه الشريفة التي لا تقبل حصرا، ولا تحصى عددا إلى مثل هذا القول من الزور والفجور، بل يكفيه ثناء الله تعالى عليه في كتابه عن مثل جميع هذا الإطراء والأمور.
قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء: 107].
وهو سيد ولد آدم، وأول شافع، ومشفع باليقين كما ورد بذلك الحديث.
فإذا جاء بعض المشركين بجلالة هذا القائل، وعلمه، وصلاحه، فقال: إن أصحاب موسى - عليهم السلام - الذين اختارهم الله على العالمين كانوا أعلم منه، وأجل، وقد قالوا لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة [الأعراف: 138].
فإذا دخل هذا المنكر على بني إسرائيل، فما ظنك بمن ليس في مرتبتهم من آحاد هذه الأمة ؟!
وكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أعلم، وأصلح من الجميع.
ولما مروا بشجرة، قالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
وهذا فيه عبرتان:
الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح أن من اعتقد في شجرة، أو تبرك بها، فقد اتخذها إلها. [ ص: 193 ]
وقد كان الصحابة يعرفون أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، وإنما ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ يأمرهم بها تصير فيها البركة.
والثانية: أن الشرك قد يقع لمن هو أعلم الناس وأفضلهم، وهو لا يدري؛ فإن الشرك أخفى من دبيب النمل، والله أعلم.