مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وما جاز بيعه جاز رهنه وقبضه من مشاع وغيره " .
قال الماوردي : وهذا كما قال .
والكلام في هذه المسألة يشتمل على فصلين :
أحدهما : شرح المذهب فيها .
والثاني : ذكر الخلاف المتعلق بها .
فأما شرح المذهب فقوله : . وما جاز بيعه جاز رهنه
فهذه هي الرواية المشهورة .
ومن أصحابنا من يروي ذلك : ومن جاز بيعه جاز رهنه ، فيجعل ذلك معطوفا على قوله : ولا معنى للرهن حتى يكون مقبوضا من جائز الأمر حين رهن ، وحين أقبض .
ومن جاز بيعه جاز رهنه ، فيجعل الجائز الأمر في الرهن من جاز بيعه ، ومن لم يجز بيعه لم يجز رهنه مثل المجنون والصغير ، والمحجور عليه لسفه فيكون هذا مستمرا .
وعلى القياس مطردا ، فيكون كل من جاز بيعه جاز رهنه ، وكل من لم يجز بيعه لم يجز رهنه .
قالوا : ومعنى قوله : من مشاع وغيره يعني في مشاع وغيره .
[ ص: 12 ] والرواية الأولى أصح ، وهي المشهورة عنه .
وما جاز بيعه جاز رهنه يعني : أن كل شيء كان بيعه جائزا كان رهنه جائزا وكل شيء لم يجز بيعه لم يجز رهنه من الأجناش أو الأنجاش وأمهات الأولاد .
فإن قيل : فقد يجوز بيع ما لا يجوز رهنه كالمدبر والمعتق نصفه والطعام الرطب المرهون إلى أجل يفسد فيه .
كالأمة دون ولدها الصغير والثمرة قبل بدو صلاحها مطلقا من غير اشتراط القطع فلأصحابنا في ذلك ثلاثة أجوبة : وقد يجوز رهن ما لا يجوز بيعه
أحدها : أن الشافعي قصد بذلك ما أفصح به في آخر كلامه من رهن المشاع ردا على أبي حنيفة حيث أجاز بيع المشاع ومنع من رهنه فقال : وما جاز بيعه جاز رهنه من مشاع وغيره ، فأما الجمع بينهما في كل موضع فلا .
الجواب الثاني : أنه أراد بذلك غالب الأشياء أن ما جاز بيعه جاز رهنه وما لم يجز بيعه لم يجز رهنه ، وقد يكون منها ما يجوز بيعه ولا يجوز رهنه ، وما يجوز رهنه ولا يجوز بيعه ، لكن الغالب بخلافه ، فجعل قائل هذا الجواب : جملة الأشياء على أربعة أضرب
ضرب يجوز بيعه ورهنه كالأملاك المطلقة .
وضرب لا يجوز بيعه ولا رهنه كالأوقاف وأمهات الأولاد .
وضرب يجوز بيعه ولا يجوز رهنه على أحد القولين كالمدبر والمعتق نصفه .
وضرب لا يجوز بيعه ويجوز رهنه ، كالأمة دون ولدها ، والثمرة مطلقا دون بدو صلاحها .
والجواب الثالث : وهو قول المحققين من أصحابنا : أن كلام الشافعي محمول على صفته ، وكل ما جاز بيعه جاز رهنه قياسا مطردا ، واعتبارا صحيحا ، وما لم يجز بيعه لم يجز رهنه .
وما ذكروه من جواز كالأمة ذات الولد ، والثمرة مطلقا قبل بدو صلاحها فغلط : لأن بيع ذلك يجوز ، فتباع الأمة مع ولدها ، والثمرة بشرط قطعها فصار بيع ذلك جائزا ، وإن اختلفت صفاته وأحواله . رهن ما لا يجوز بيعه
وما ذكروه من جواز كالمدبر والمعتق نصفه ، ففي جواز رهن المدبر والمعتق نصفه قولان : بيع ما لا يجوز رهنه
أحدهما : يجوز ، فعلى هذا قد استمر الجواب ، وسقط السؤال .
والثاني : لا يجوز ، فعلى هذا يجوز أن يرهنه المشتري وإن لم يجز أن يرهنه البائع فصار رهنه جائزا وإن كان في أحوال مرتهنه مختلفا فهذا جملة الكلام في شرح المذهب وتفسير كلامه .
[ ص: 13 ] فصل : فأما الخلاف المتعلق بهذه المسألة فهو يشتمل على فصلين :
أحدهما : هل استدامة قبض الرهن من شرط صحته أم لا ؟
والثاني : هل رهن المشاع جائز أم لا ؟
فأما الفصل الأول في استدامة القبض فتقديم الكلام فيه أولى لأنه لأبي حنيفة أصل ينشئ بطلان رهن المشاع عليه ، فمذهب الشافعي : أن استدامة قبض الرهن ليس بشرط في صحة الرهن ، فإن خرج الرهن من يد المرتهن باستحقاق كالإجارة ، أو بغير استحقاق كالإعارة أو الغصب لم يبطل الرهن .
وقال أبو حنيفة : فإن خرج من يد المرتهن باستحقاق كالإجارة أبطل الرهن ، وإن خرج من يده بغير استحقاق كالغصب والإعارة لم يبطل الرهن ، لأنه لا يقدر على انتزاعه إذا خرج باستحقاق أو يقدر على انتزاعه إذا خرج بغير استحقاق . استدامة قبض الرهن شرط في صحة الرهن ،
واستدل على أن استدامة القبض شرط في صحة الرهن بقوله تعالى : فرهان مقبوضة [ البقرة : 283 ] فجعله بالقبض وثيقة للمرتهن ، فدل على أن زوال القبض يزيل وثيقة المرتهن .
ولأنه محتبس بحق الاستيفاء فوجب أن يكون زوال اليد عنه مزيلا لحق الاستيفاء منه أصله : المبيع المحتبس في يد بائعه لاستيفاء ثمنه .
ولأن كما أن المقصود بالبيع حصول الملك واليد ثم كانت استدامة الملك في البيع من موجبه ومقتضاه فوجب أن تكون استدامة القبض في الرهن من موجبه ومقتضاه . المقصود بعقد الرهن حصول الاحتباس والقبض
ولأن فإن قبض صار لازما ، فلما كان لزومه بالقبض ، وجب أن يزول لزومه بزوال القبض . الرهن قبل القبض غير لازم ،
ودليلنا حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرهن مركوبا ومحلوبا ولا يخلو أن يكون ذلك للراهن أو للمرتهن فلم يجز أن نجعل ذلك للمرتهن لأمرين : الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونا ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة
[ ص: 14 ] أحدهما : إجماعهم على أن المرتهن لا يستحق ذلك .
والثاني : أنه جعل على الراكب والشارب والنفقة واجبة على الراهن دون المرتهن ، فثبت بهذين جواز ذلك للراهن ، فصار مستحقا لإزالة يد المرتهن عنه ، ثم لم يزل حكم الرهن عنه فثبت أن استدامة قبضه ليست شرطا في صحته ، ولأنه عقد من شرط لزومه القبض ، فوجب أن لا يكون من شرط صحته استدامة القبض كالهبة والصرف ، ولأن القبض في الرهن أوسع من القبض في البيع ، لجواز اشتراط الرهن على يدي عدل ، فلما لم تكن استدامة القبض في البيع مع قوته شرطا في صحته : فلأن لا تكون استدامة القبض في الرهن مع ضعفه شرطا في صحته أولى ، ولأن من جعل استدامة القبض فيه شرطا فلا يخلو أن تكون استدامة قبضه مشاهدة أو حكما ، فلا يجوز أن يكون الشرط في صحة استدامة قبضه مشاهدة ، لجواز خروجه من يده بعارية أو على يد عدل ، فثبت أن الشرط في صحة استدامة قبضه حكما ، وهذا شرط معتبر عندنا ، لأنه وإن خرج من يده باستحقاق فهو في حكم المقبوض له ، لأنه لا يخرج عن سلطان المرتهن ولا يحال بينه وبينه . نفقة الرهن ،
وأما استدلالهم بقوله تعالى : فرهان مقبوضة [ البقرة : 283 ] فهو حجة عليهم ، لأنه جعل الرهن وثيقة بحصول القبض ، فإذا حصل القبض مرة فقد استقر القبض وحصل الرهن وثيقة أبدا .
وأما قياسهم على المبيع في يد بائعه لاستيفاء الثمن ، فغير صحيح ، لأن المبيع المحبوس بحق اليد لا العقد ، فإذا زالت اليد زال حكم الاحتباس والرهن محبوس بحق العقد والقبض ، فإذا زال استصحابه لم يبطل العقد المقترن به كقبض الهبات والصرف .
وأما قولهم : إن المقصود بعقد الرهن حصول الاحتباس والقبض كالملك في البيع ، فحجة تعكس عليهم لأنه لما لم تكن استدامة الملك في البيع شرطا في صحة العقد ، بل لو شرط ألا يزيل المشتري ملكه عن المبيع بطل العقد وجب ألا تكون استدامة القبض في الرهن شرطا في صحة العقد .
وأما قولهم : إن لزومه لما كان بالقبض وجب أن يزول لزومه بزوال القبض ، فباطل بالعارية فإنه قد زال بها القبض ولم يزل بها لزوم الرهن على قولنا إن لزومه كان بالقبض لا باستدامة القبض ، وخروجه من يده يزيل استدامة القبض ولا يزيل ما تقدم من القبض فلم يزل ما به لزم على أن حكم قبضه مستدام .
فصل : فأما الفصل الثاني في رهن المشاع فمذهب الشافعي : جواز . رهن المشاع من الشريك ، وغير الشريك
[ ص: 15 ] وقال أبو حنيفة : رهن المشاع يصح من الشريك ، ولا يصح من غير الشريك .
قال : لأن رهنه من غير الشريك يوجب مهايأة بين المرتهن والشريك ، والمهايأة توجب انتزاع الرهن من يد المرتهن باستحقاق قارن العقد ، فوجب أن يكون مانعا من صحة الرهن ، أصله ، إذا رهن شيئا مغصوبا .
قال : ولأن المهايأة توجب تسليمه إلى المرتهن يوما وانتزاعه من يده يوما ، ولو شرط هذا في عقد الرهن كان باطلا ، فكذا إذا استحق هذا بعقد الرهن كان باطلا .
ودليلنا : هو أن كل ما جاز بيعه جاز رهنه كالمجوز فإن قيل : فالخلاف في صحة قبضه لا في صحة عقده ، قلنا : كل ما صح أن يكون مقبوضا في البيع صح أن يكون مقبوضا في الرهن كالمحوز ، ولأنه لو رهن شيئا محوزا عند رجلين جاز الرهن وإن كان نصفه مشاعا رهنا عند كل واحد من الرجلين فكذا إذا كان النصف منه مشاعا رهنا والنصف الآخر مطلقا .
وتحرير هذا الاستدلال قياسا : أن كل شيء جاز له أن يرهن جميعه عند شخص جاز له أن يرهن بعضه مشاعا عند ذلك الشخص .
أصله : إذا رهن المحوز عند رجلين .
وأما قياسهم على وهي توجب انتزاعا من اليد . رهن المغصوب بعلة أن المهايأة واجبة ،
قلنا : المهايأة غير واجبة عندنا لأمرين :
أحدهما : أن منفعة الشيء بين المالكين ، فلم يلزم أحدهما أن يعارض على منفعة ملكه بما يعتاضه من منفعة ملك صاحبه .
والثاني : أن في المهايأة تعجيلا لحق مؤجل وتأجيلا لحق معجل ، وتعجيل ما كان مؤجلا ، وتأجيل ما كان معجلا غير واجب ، ولو وجبت المهايأة لكان الجواب عن ذلك من وجهين :
أحدهما : أن المغصوب لا يمكن استيفاء الحق من ثمنه فلم يجز رهنه ، وليس كذلك المشاع بعد المهايأة .
والثاني : أن القبض في المغصوب لم يصح فيلزم به الرهن ، وليس كذلك المشاع بعد المهايأة .
وأما قولهم : إن ذلك يقتضي أن يكون يوما رهنا ، ويوما غير رهن ، فغير صحيح ، لأنه [ ص: 16 ] رهن في جميع الأيام ، وقبضه حكم مستدام ، وخروجه في يوم المهايأة عن يده لا يزيل حكم قبضه عنه ، وإن حصل في يد غيره ، فصار كمن رهن شيئا على أنه يكون في يد مرتهنه يوما وعلى يد عدل يوما لم يمنع ذلك من صحة الرهن وكان هذا بخلاف قوله : أرهنك يوما وأسترجعه منك يوما .