الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " فإن صار خلا بصنعة آدمي فلا يكون ذلك حلالا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال .

                                                                                                                                            لا يحل تخليل الخمر ، فإن خللها بخل أو ملح ألقاه فيها فهي نجسة لا يحل شربها لكن لا يفسق مستحلها ، ولا يحد شاربها .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة تخليل الخمر جائز وهي بالتخليل طاهرة وشربها مباح استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم نعم الإدام الخل ولم يفرق بما روت أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يحل الدباغ الجلد كما يحل الخل الخمر ، وهذا نص في تحليلها وإباحة تخليلها ولأنها عين نجست لعارض فجاز أن تطهر بفعل الآدمي ، أصله : جلد الميتة حيث يطهر بالدباغ ، والثوب النجس حيث يطهر بالغسل ، ولأن ما جاز أن يطهر بغير فعل آدمي جاز أن يطهر بفعل الآدمي كالبيض المحضون إذا نجس بأن صار دما وعلقة لما جاز أن يطهر فيصير فرخا بغير فعل آدمي إما بنفسه أو بخاصية جاز أن يطهر بفعل الآدمي كذلك الخمر لما جاز أن تطهر باستحالتها خلا من غير فعل آدمي جاز أن تطهر إذا خللت بفعل الآدمي .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها فلما كان تنجيسها وتحريمها عندكم بحدوث الشدة فيها وعندنا لانطلاق اسم الخمر عليها وكان تخليلها يزيل الشدة منها وبنقل اسم الخمر عنها وجب أن يزيل تنجيسها وتحريمها .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن من حكمها مع تنجيسها وتحريمها تفسيق متناولها ووجوب الحد على شاربها ، فلما كان تخليلها مانعا من تفسيق متناولها ، ومسقطا لوجوب الحد على شاربها وجب أن يكون رافعا لتنجيسها وتحريمها .

                                                                                                                                            وتحرير ذلك قياسا ، أنه أحد حكمي الخمر ، فوجب أن يرتفع بالتخليل كالحد .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن التخليل على ضربين :

                                                                                                                                            تخليل بطرح شيء فيها وتخليل بنقلها وتحويلها فلما كان تخليلها بنقلها من الظل إلى الشمس وتعريضها للحر والريح رافعا لتنجيسها وتحريمها موجبا لتطهيرها وتحليلها وجب أن يكون تخليلها بطرح شيء فيها رافعا لتنجيسها وتحريمها موجبا لتطهيرها وتحليلها .

                                                                                                                                            [ ص: 113 ] وتحرير ذلك أنه أحد نوعي التخليل ، فوجب أن يقع به التطهير والتخليل كالنقل والتحويل .

                                                                                                                                            والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما روى أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) أن أبا طلحة الأنصاري قال : يا رسول الله إن عندي خمرا لأيتام فقال صلى الله عليه وسلم : أهرقها ، قال : أفلا أجعلها خلا ؟ قال : لا ، قال أنس رضي الله عنه : فعمدت إلى مهراس عندنا فكسرتها فأرقتها .

                                                                                                                                            ومن هذا الخبر دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه منعه من تخليلها ، ولو كان تخليلها سببا لطهارتها وإباحتها لأمر به ولم يمنع منه ، كما أن الدباغة لما كانت سببا لطهارة الجلد أمر به في شاة ميمونة حيث رآها ميتة ولم يمنع منه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أمر بإراقتها مع علمه أنها مال يتيم وأموال اليتامى تجب حراستها ، فلو كان التخليل سببا لطهارتها وإباحتها لأمر به في مال اليتيم ولم يأمر بإراقتها .

                                                                                                                                            وروي في حديث آخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تخليل الخمر والنهي يقتضي تحريم المنهي عنه وفساده .

                                                                                                                                            ولأنه إجماع الصحابة وهو ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا تنتفعوا بخمر أفسدتموها حتى يقلب الله عينها .

                                                                                                                                            وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا تشتروا الخل من الخمار مخافة أن يكون قد خللها .

                                                                                                                                            فهذا قول صحابيين وليس لهما في الصحابة مخالف .

                                                                                                                                            ويدل على ذلك من ناحية المعنى : أنه مائع نجس لا يطهر بالمكاثرة فوجب ألا يطهر بالعلاج والصنعة . . أصله : ما سوى الخمر من المائعات النجسة .

                                                                                                                                            ولأن ما استبيح من الأموال بغير فعل لم يستبح بالمحظور من الفعل ، كالميراث وغيره لما كان يستباح بالموت من غير فعل الوارث لم يستبح بقتل الوارث كذلك الخمر لما استبيحت باستحالتها خلا من غير فعل محظور لم تستبح بانقلابها خلا بفعل محظور .

                                                                                                                                            ولأن تحريم الخمر وتنجيسها لحدوث الشدة المطربة فيها والشدة قد تزول تارة بإلقاء [ ص: 114 ] العسل فيها فتحلو ، وتارة بإلقاء الخل فيها فتحمض ، فلما كان زوال الشدة إذا حلت بإلقاء العسل فيها لا يوجب إباحتها وتطهيرها وجب أن يكون زوال الشدة إذا حمضت بإلقاء الخل فيها لا يوجب إباحتها وتطهيرها وتحرير ذلك قياسا :

                                                                                                                                            أنه أحد نوعي فعل تزول به الشدة فوجب ألا تقع به الإباحة كزوالها بالحلاوة .

                                                                                                                                            وكان الإسفراييني يعتمد في هذه المسألة على أن الخل إذا ألقي في الخمر فقد نجس بملاقاة الخمر فلا يطهر بانقلابها خلا لنجاسة ما ألقي فيها من الخل كما لو كان الخل نجسا من قبل ويزعم أن هذا فقه المسألة وأقوى دلائلها وهذا ليس بصحيح لأنه لا دليل في المسألة أو رهن منه لظهور فساده بكل ما تقع الطهارة به لأن الماء وهو أقوى الأشياء في التطهير ينجس بملاقاة النجاسة إذا ورد عليها ولا يمنع من إزالتها وطهارة محلها ، والأحجار تنجس في الاستنجاء بملاقاة النجاسة في محلها ولا تمنع إزالة حكمها .

                                                                                                                                            والشث والقرظ في الدباغ ينجس بملاقاة جلد الميتة ولا يمنع من تطهيره ولو كان هذا كله نجسا قبل الملاقاة لم تقع به الطهارة فما المانع أن يكون حكم الخل كذلك .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله عليه السلام نعم الإدام الخل فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن قوله " نعم " لفظ تفضيل وتشريف ، وما كان مختلفا في إباحته لا يستحق التفضيل والتشريف وتخليل الخمر مختلف فيه فلم يجز أن يكون داخلا في عموم لفظ ينافيه .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن قوله قصد به إباحة الجنس والجنس مباح فلم يجز إذا اختلف في تنجيس البعض لمعنى أن يجعل دليلا فيه كما لا يجعل دليلا في طهارة ما طرأت عليه النجاسة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله : يحل الدباغ الجلد كما يحل الخل الخمر مع ضعفه فإنه محتمل لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه أراد الخل الذي قد استحالت إليه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أراد خلا ألقي فيها . . فكان حمله على الأول أولى من حمله على هذا لأن بإلقاء الخل فيها لا تطهر إجماعا حتى تستحيل مع ذلك خلا وهذه زيادة في الطهارة فكان الأول أولى .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الدباغ في جلد الميتة فباطل بلحم الميتة لأنه لا سبيل إلى طهارته وإن كانت نجاسته لعارض ، ثم المعنى في دباغ جلد الميتة أنه يستباح بفعل غير محظور فجاز أن يطهر به ولما كان التخليل محظورا لم يجز أن يطهر به .

                                                                                                                                            [ ص: 115 ] وأما استدلالهم بالبيض إذا صار دما وعلقة فقد اختلف أصحابنا في البيض إذا صار كذلك هل هو نجس أم لا ؟ على وجهين بناء على اختلافهم في علقة الآدمي .

                                                                                                                                            أحدهما : أنه طاهر ، فعلى هذا يسقط الدليل به .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه نجس ، فعلى هذا الفرق بين البيض وبين الخمر من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الفعل في البيض غير محظور فجاز أن يطهر به وفي الخمر محظور فلم يجز أن يطهر به .

                                                                                                                                            والثاني : أن ما هو نجس من البيض لم يحدث فيه فعل وإنما كان في غيره فجاز أن يطهر به كما يطهر الخمر بالاستحالة ، وليس كذلك الخمر النجس لأن فعل التخليل حادث فيه فلم يجز أن يطهر به .

                                                                                                                                            وأما قولهم : إن العلة إذا زالت وجب زوال حكمها فالجواب : أن نجاسة الخمر قد زالت وإنما بقي نجاسة الخل .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على سقوط الحد وزوال التفسيق فيقال بموجبه لأن نجاسة الخمر قد زالت وإنما بقيت نجاسة أخرى وهي نجاسة الخل .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على تحليلها بالنقل والتحويل من الظل إلى الشمس أو بتعريضها للهواء والريح ، أو بكشف رءوسها حتى أطارت الريح الملح فيها فهل تكون طاهرة كما لو استحالت أو تكون نجسة كما لو خللت ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة : أنها نجسة كما لو خللت لأن تحويلها وكشف رأسها سبب لإتلافها ومانع من استحالتها بذاتها وخالف الإمساك لأن إمساكها يقصد به تعتيقها واستصلاحها ويقصد بكشفها استهلاكها وإتلافها ألا ترى إلى قول الشاعر :

                                                                                                                                            فهي لليوم الذي نزلت وهي ترب الدهر في القدم

                                                                                                                                            فعلى هذا سقط الاستدلال .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنها طاهرة كما لو استحالت بخلاف التخليل لأن التخليل إحداث فعل فيها فلم تطهر به وليس كشف رءوسها وتحويلها إحداث فعل فيها فجاز أن تطهر به .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية