الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فمن أوجب ضمانه استدل برواية مصعب بن ثابت ، عن عطاء ، أن رجلا رهن عند رجل فرسا فنفق الفرس في يدي المرتهن فاختلفا فتدافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب حقك ، قالوا : فلما خير المرتهن بذهاب حقه لم يخل من ثلاثة أحوال .

                                                                                                                                            إما أن يكون أخبر بذهاب وثيقته أو بذهاب المطالبة ببدله أو بذهاب دينه ، فلم يحسن أن يخبر بذهاب وثيقته لأن هذا يعلم ضرورة بالحسن ولم يكن اختلافهما فيه ، ولم يجز أن يخبره بذهاب المطالبة ببدله ، لأن المطالبة ببدله لم تكن واجبة قبل تلفه فيذهب بتلفه ، فعلم أنه أخبره بذهاب دينه ، وبرواية علقمة بن مرثد ، عن محارب بن دثار ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الرهن بما فيه .

                                                                                                                                            قالوا : فلما جعل الرهن بما فيه من الحق وجب أن يكون تلفه مسقطا للحق .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن الحق متعلق بالرهن كتعلق أرش الجناية بالعبد ، ثم ثبت أن تلف العبد الجاني مسقط للأرش ، فكذا تلف الرهن مسقط للحق .

                                                                                                                                            [ ص: 256 ] وتحريره علة أنه استيفاء حق تعلق ابتداء بالعين فوجب أن يسقط بتلف العين كالعبد الجاني .

                                                                                                                                            وقولهم ابتداء احترازا من ولد المرهون : لأن عندهم أن الحق يتعلق به ، ولا يسقط بتلفه لأن حق الاستيفاء لم يتعلق في الابتداء ، ولأن الرهن محتبس في يد المرتهن بالحق كما أن المبيع محتبس في يد البائع بالثمن ، فلما كان تلف المبيع في يد البائع موجبا لسقوط الثمن وجب أن يكون تلف الرهن في يد المرتهن موجبا لسقوط الحق .

                                                                                                                                            وتحريره علة أنه محتبس بعقد على وجه الاستيثاق لاستيفاء مال فوجب أن يكون تلفه موجبا لسقوط المال كالمبيع إذا تلف في يد البائع ، ولأن أخذ الشيء على وجه ما يتعلق بتلفه ضمان ذلك الوجه كالسوم ، لأن المساوم يأخذ الشيء على وجه البدل ، فإذا تلف في يده لزمه البدل ، كذلك المرتهن يأخذ الرهن على وجه استيفاء الحق ، فإذا تلف في يده تلف بالحق .

                                                                                                                                            وتحريره علة أخذ على الاستيفاء ، فوجب أن يكون حكمه إذا تلف حكم المستوفى كالسوم ، ولأن الرهن في مقابلة الحق فلما كان الحق مضمونا وجب أن يكون ما في مقابلته من الرهن مضمونا كالديون ، ولو كان غير مضمون كان ما في مقابلته من الحق غير مضمون كالودائع .

                                                                                                                                            تحريره أنه مأخوذ في مقابلة حق فوجب أن يكون حكمه في الضمان حكم ما في مقابلته من الحق كالقروض المأخوذة في الدين ، ولأنه عقد يقضي إلى زوال الملك في ثاني حال فوجب أن يكون مضمونا في الحال كالقرض .

                                                                                                                                            والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه رواية معمر وابن أبي ذئب وإسحاق بن راشد وابن أبي أنيسة عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه .

                                                                                                                                            فالدلالة منه من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : قوله لا يغلق الرهن ، قال أبو عبيد : له تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن المرتهن لا يملكه عند تأخر الحق .

                                                                                                                                            والثاني : أن لا يكون غلقا فيتلف الحق بتلفه فوجب حمله عليهما جميعا ، وفي هذا نظر : لأن اللفظ المبهم إذا لم يعلم مراده بمجرده لم يجز ادعاء العموم في موجبه حتى يكون مستقلا بنفسه يتناول شيئين فصاعدا ، فحينئذ يجوز ادعاء العموم فيه .

                                                                                                                                            والدلالة الثانية من الخبر قوله " الرهن من صاحبه الذي رهنه " يعني : من ضمان [ ص: 257 ] صاحبه ، ولا يصح حمله على أنه من ملك صاحبه ، لأن حرف التمليك هو اللام ، فلو أراد الملك لقال : الرهن لصاحبه ، ولفظة " من " مستعملة في الضمان : لأنه يقال : هذا من ضمان فلان ، فلما قال : " من صاحبه " علم أنه أراد : من ضمان صاحبه ، والدلالة الثالثة من الخبر قوله " له غنمه وعليه غرمه " قال الشافعي رضي الله عنه : غنمه زيادته ونماؤه ، وغرمه عطبه ونقصه .

                                                                                                                                            فإن قيل : الغرم في اللسان هو التزام البدل عن الشيء عن تلفه ولا ينطلق اسم الغرم على من تلف الشيء من ماله .

                                                                                                                                            قيل : قد ينطلق اسم الغرم على الأمرين معا على أنه قد يصير غارما للحق ، ثم من الدليل أيضا قول الله تعالى : ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة [ البقرة : 282 ] فجعل الله تعالى الرهن بدلا من الكتاب والإبدال في عام أحكامها وفي حكم مبدلاتها ، كالصيام في الكفارة لما كان بدلا من العتق كان في الوجوب كالعتق ، وكالتيمم في الطهارة لما كان بدلا من الماء كان في الوجوب كالطهارة بالماء ، وإذا وجب أن يكون حكم البدل حكم المبدل بدليل ما ذكرنا من الشاهد ، وجب أن يكون حكم الرهن حكم الكتاب فلما كان تلف الكتاب لا يوجب سقوط الحق وجب أن يكون تلف الرهن لا يوجب سقوط الحق ، ولأن الرهن وثيقة كالضمان ، ثم ثبت أن الحق لا يسقط بتلف الضامن وجب أن لا يسقط بتلف الرهن .

                                                                                                                                            وتحريره علة أنه وثيقة في الحق ، فوجب أن لا يكون تلفه مسقطا للحق كالضمان ، ولأن فاسد كل عقد مردود إلى صحيحه في وجوب الضمان وسقوطه ، ألا ترى أن البيع لما كان فاسده مضمونا كان صحيحه مضمونا ، والشركة والمضاربات لما كان صحيحها غير مضمون كان فاسدها غير مضمون ، ثم ثبت أن الرهن الفاسد غير مضمون ، فوجب أن يكون الرهن الصحيح غير مضمون .

                                                                                                                                            وتحريره علة أنه عقد فاسد غير مضمون فوجب أن يكون صحيحه غير مضمون كالشركة والمضاربات ، ولأن الرهن قد يبطل بتلفه كما يبطل بفسخه ، ثم ثبت أن بطلانه بالفسخ لا يوجب سقوط الحق ، فوجب أن يكون بطلانه بالتلف لا يوجب سقوط الحق .

                                                                                                                                            وتحريره أنه معنى يبطل الرهن فوجب أن لا يسقط الحق كالفسخ ، ولأن الأصول موضوعة على أن كل شيء كان بعضه غير مضمون كان جميعه غير مضمون كالودائع والشيء المستأجر ، وكل شيء كان بعضه مضمونا كان جميعه مضمونا كالبيوع والغصوب ، فلما كان بعض الرهن غير مضمون وهو ما زاد على قدر الحق وجب أن يكون جميعه غير مضمون بالحق .

                                                                                                                                            وقد يتحرر من هذا الاستدلال قياسان :

                                                                                                                                            [ ص: 258 ] أحدهما : أنه مقبوض لا يوجبه ضمان بعضه ، فوجب أن لا يجب ضمان جميعه كالودائع والشيء المستأجر .

                                                                                                                                            والثاني : أنه مرهون فوجب أن يكون بالعقد غير مضمون كالزيادة على الحق ، ولأن الرهن وثيقة لمن له الحق ، فلو كان مضمونا بالحق لكان وثيقة على من له الحق ، وفي ذلك إبطال لمعنى الرهن ، وهذا استدلال الشافعي .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم لمرتهن الفرس ذهب حقك فراويه مصعب بن ثابت وهو ضعيف ، ثم هو مرسل : لأنه عن عطاء ، والمراسيل عندنا لا يجب بها العمل ، ثم هي قضية في عين يجوز أن تكون على وجه التعدي فلزم فيه الضمان على أنه لو خلا من هذه الأمور المانعة من وجوب العمل به وجاء مجيئا يلزم الآخذ به لكان عن قوله ذهب حقك جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : المراد به حق الوثيقة ، وسقوط حقه من الدين مسقط لحقه من الوثيقة ، وليس سقوط حقه من الوثيقة مسقطا لحقه من الدين ، فلو كان أراد به ذهاب حقه من الدين لقال ذهب حقك ، فلما قال : ذهب حقك وأشار إلى حق واحد علم أنه أراد حق الوثيقة دون الدين .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن قوله ذهب حقك ، محمول على ذهاب حقه من فسخ البيع : لأنه لو تلف قبل القبض لكان يستحق فسخ البيع ، فإذا تلف بعد القبض كان في الجائز أن يستحق فسخ البيع ، فأذهب النبي صلى الله عليه وسلم حقه في الفسخ بعد القبض .

                                                                                                                                            وأما الجواب عما روي من قوله " الرهن بما فيه " إن صح محمول على أنه وثيقة بما فيه فلا يجوز حمله على أنه مضمون بما فيه لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه زيادة لضمان لا يقتضيه اللفظ .

                                                                                                                                            والثاني : أنه جعل الرهن بما فيه مع بقائه ، وهو على بقائه غير مضمون على مرتهنه حين يتلف ، وإنما هو مع بقائه وثيقة بما فيه فلم تصح الدلالة منه .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قياسهم على تلف العبد الجاني فالمعنى في العبد الجاني أن الأرش تعلق بمحل واحد وهو رقبة الجاني ، فإذا تلف العبد بذل الأرش كتلف محله ، وحق المرتهن متعلق بمحلين ، أحدهما : ذمة الراهن ، والثاني : رقبة الرهن .

                                                                                                                                            [ ص: 259 ] فإذا تلف الرهن فقد تلف أحد المحلين ، وبقي الآخر فلم يتلف الحق لبقاء أحد محليه ، كالدين المضمون لما كان متعلقا بالمحلين يلزمه المضمون عنه ، وبذمة الضامن لم يكن تلف الضامن للدين مبطلا للحق لبقاء المحل الآخر .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على تلف المبيع في يد البائع ، فالمبيع غير محتبس بعقد : لأن عقد البيع يوجب تسليمه ، ويمنع من حبسه ، وإنما تأخير الثمن يوجب حبسه ، ألا تراه يستديم حبسا قبل البيع فلم يسلم الوصف في قولهم محتبس بعقد ، وإذا لم يسلم الوصف انتقصت العلة على أصلهم بزيادات الرهن من الأولاد والنتاج وهي محتبسة بالحق ، ثم لا يضمنها المرتهن على أن المعنى في البيع أنه في مقابلة عوض يسقط بالفسخ فلذلك لم يسقط بالتلف .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على السوم فمنتقض بالشيء المستأجر : لأنه أخذه على وجه الاستيفاء ، ولا يضمن إذا تلف ضمان الاستيفاء على أن السوم دليلنا .

                                                                                                                                            وذلك أن سبب كل شيء فيما يتعلق بالضمان حكم سببه بدليل أنه لو أخذ الشيء من مساومه كان مضمونا عليه ، ولو أخذه عن عقد مبايعة كان مضمونا عليه ، فلما كان لو أخذ الشيء لمرتهنه لم يكن مضمونا عليه وجب إذا أخذه عن عقد رهن أن يكون غير مضمون عليه ، وأما الجواب عن قياسهم على القروض المأخوذة بالدين وعن قياسهم على القرض فواحد ؛ وهو أن ذلك مأخوذ على وجه البدل من الحق ، بدليل أن قيمته لا توجب سقوط الحق فلذلك لم يكن مضمونا ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية