الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال المزني : " هذه مسائل تحريت فيها معاني جوابات الشافعي في الحوالة ( قال المزني ) قلت أنا من ذلك ولو اشترى عبدا بألف درهم وقبضه ثم أحال البائع بالألف على رجل له عليه دين ألف درهم فاحتال ثم إن المشتري وجد بالعبد عيبا فرده بطلت الحوالة ، وإن رد العبد بعد أن قبض البائع ما احتال به رجع به المشتري على البائع وكان المحال عليه منه بريئا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها في رجل اشترى من رجل عبدا بألف درهم ثم إن المشتري أحال البائع بالألف على رجل للمشتري عليه ألف ، فكان المشتري محيلا والبائع محتالا والأجنبي محالا عليه ، وفي مذهبنا على ما بينا أن الحوالة تتم بالمحيل والمحتال وليس رضا [ ص: 424 ] المحال عليه شرطا فيها فصارت الحوالة هاهنا تامة بالبائع والمشتري .

                                                                                                                                            ثم إن المشتري بعد تمام الحوالة وجد بالعبد عيبا متقدما فرده على البائع بعيبه ، فلا يخلو حال البائع في الحوالة من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكون قد قبض الألف من المحال عليه أو لم يقبضها ، فإن كان قد قبضها من المحال عليه لم تبطل برد العبد وبرئ المحال عليه منها لأنه دفعها عن أمر المالك ، وكان للمشتري إذا رد العبد أن يرجع على البائع بها لأن رد المبيع بالعيب يوجب استرجاع الثمن .

                                                                                                                                            فإن كان البائع لم يقبض الحوالة قبل رد المشترى عليه العبد بالعيب فقد قال المزني هاهنا في جامعه الصغير إن الحوالة قد بطلت .

                                                                                                                                            وهكذا قال في حكاية شاذة في جامعه الكبير ، وقد حكي عنه أنه قال في بعض النسخ من جامعه الكبير : الحوالة ثابتة لا تبطل .

                                                                                                                                            فاختلف أصحابنا في ذلك على أربعة طرق .

                                                                                                                                            أحدها : أن الحوالة باطلة على ما نص عليه في جامعه الصغير ، وجمهور النسخ من جامعه الكبير ، فإن من حكى عن الجامع صحة الحوالة خاطئ في النقل .

                                                                                                                                            وهذه طريقة أبي علي بن أبي هريرة وأكثر أصحابنا ؛ لأن الحوالة تمت بالبائع والمشتري ، وقد اتفقنا في الرد بالعيب على إبطال سببها فوجب أن تبطل ولا يجوز أن ينفسخ البيع في الرد بالعيب ويكون البائع على حقه من استيفاء الثمن .

                                                                                                                                            والطريقة الثانية : أن الحوالة ثابتة لا تبطل على الحكاية الشاذة في جامعه الكبير وإن ما قاله في الجامع الصغير خطأ وهذه طريقة أبي علي الطبري وهذه أسوأ الطرق .

                                                                                                                                            وكان من دليله على صحتها مع فسادها بالنقل الصريح وبطلانها بالحجاج الصحيح أن قال : أخذ البائع بالثمن حوالة كأخذه بالثمن عوضا فلما كان إذا أخذ بالثمن عوضا أو ثوبا ثم ترادا بعيب لم ينفسخ ملك البائع عن العوض الذي أخذه بالثمن ولزمه الثمن دون العوض ، كذلك إذا أخذ بالثمن حوالة لم تبطل الحوالة وكان عليه رد بدلها ، وهذا الاستدلال فاسد ، والفرق بين ما ذكره أن أخذه بالثمن عوضا هو عقد بيع ثان فلم يكن فسخ أحدهما موجبا لفسخ الآخر ، وليس كذلك أخذ الحوالة بالثمن لأنه عقد واحد فإذا انفسخ بطل ما تفرع عنه .

                                                                                                                                            والطريق الثالثة : أن كلا النقلين صحيح ، وأنه محمول على اختلاف حالين ، فالموضوع الذي أبطل الحوالة إذا كان رد العبد قبل قبضها ، وهذه طريقة كثير من أصحابنا لأن الحوالة بعد قبضها قد انقطعت علقتها وانبرمت ولم يلحقها الفساد وهي قبل قبضها موقوفة [ ص: 425 ] عليه ، وأصح هذه الطرق إن صح النقلان معا الطريقة الثالثة ، وإن لم يصح النقلان الطريقة الأولى .

                                                                                                                                            فأما إذا خرج العبد حرا ، أو مستحقا فالحوالة باطلة عند كافة أصحابنا لأن البيع وقع فاسدا فلم تصح الحوالة بحال .

                                                                                                                                            والطريقة الرابعة : أنه محمول على اختلاف حالين على غير هذا الوجه فالموضع الذي أبطل الحوالة إذا كان العيب متقدما فلا يجوز حدوث مثله بعد القبض ، والموضع الذي أثبتها إذا جاز حدوث مثل العيب بعد القبض وكان القول في حدوثه قول البائع مع يمينه فنكل عن اليمين وردت على المشتري وحلف واستحق الرد ، فالحوالة ثابتة لا تبطل ؛ لأن الحوالة تبطل باتفاق المحيل والمحتال كما كان تمامها بهما ، وإذا أنكر البائع تقدم العيب صار بطلانها لو أبطلت بقول المحتال وحده وهو المشتري ، والحوالة لا تبطل بقوله وحده وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي .

                                                                                                                                            ( قال المزني ) وفي إبطال الحوالة نظر ، ( قال ) : ولو كان البائع أحال على المشتري بهذه الألف رجلا له عليه ألف درهم ثم تصادق البائع والمشتري أن العبد الذي تبايعاه حر الأصل فإن الحوالة لا تنتقض لأنهما يبطلان بقولهما حقا لغيرهما ، فإن صدقهما المحتال أو قامت بذلك بينة انتقضت الحوالة " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها أن يشتري رجل من رجل عبدا بألف ويكون على البائع لرجل أجنبي ألف فيحيله على المشتري بالألف التي له عليه من ثمن العبد ، فيصير البائع محيلا ، والأجنبي الغريم محتالا ، والمشتري محالا عليه ، والحوالة على ما وصفنا تتم بالمحيل والمحتال فتصير حينئذ هاهنا تامة بالبائع والغريم الأجنبي .

                                                                                                                                            ثم إن العبد المبيع بان حر الأصل ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تقوم بحريته بينة عادلة فتبطل الحوالة لأن البينة مقبولة على الجميع .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : ألا تقوم بينة وإنما يتصادق البائع والمشتري على حريته فإن صدقهما الغريم الأجنبي على حرية العبد وأن الحوالة كانت بثمنه بطلت الحوالة أيضا ؛ لأن من تمت به الحوالة قد اعترف ببطلان الحوالة وهو البائع المحيل والغريم المحتال ، فإن لم يصدقهما على حرية العبد فالقول قوله مع يمينه ، ولا تبطل الحوالة ؛ لأن الحوالة تمت بالبائع والغريم ، فلم تبطل بالبائع وحده .

                                                                                                                                            وهكذا لو صدقهما على حرية العبد الذي تبايعاه وأنكر أن تكون الحوالة بثمنه وذكر أنها بمال غيره ، فالقول قول الغريم أيضا مع يمينه والحوالة بحالها صحيحة لما ذكرنا من التعليل .

                                                                                                                                            [ ص: 426 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية