الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو أسلفه برهن ثم سأله الراهن أن يزيده ألفا ويجعل الرهن الأول رهنا بها وبالألف الأولى ففعل لم يجز الآخر لأنه كان رهنا كله بالألف الأولى كما لو تكارى دارا سنة بعشرة ثم اكتراها تلك السنة بعينها بعشرين لم يكن الكراء [ ص: 88 ] الثاني إلا بعد فسخ الأول ( قال المزني ) قلت أنا : وأجازه في القديم وهو أقيس لأنه أجاز في الحق الواحد بالرهن الواحد أن يزيده في الحق رهنا فكذلك يجوز أن يزيده في الرهن حقا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال .

                                                                                                                                            إذا رهن عبده على ألف درهم ثم طلب منه ألفا أخرى على أن يكون العبد رهنا بالألفين معا فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يفسخا الرهن الأول ، ثم يستأنفاه بألفين فهذا جائز إجماعا .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يجعلاه بالعقد الأول رهنا بألفين فهذا على قولين منصوصين : أحدهما : وهو قوله في القديم أن ذلك جائز وبه قال المزني وأبو يوسف وأبو ثور .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو قوله في الجديد أن ذلك لا يجوز وبه قال مالك وأبو حنيفة .

                                                                                                                                            فإذا قلنا بقوله في القديم أن ذلك جائز فوجهه أن الضمان وثيقة كما أن الرهن وثيقة ثم ثبت أنه لو ضمن له ألفا فصارت ذمته مرهونة بها جاز أن يضمن له ألفا أخرى فتصير ذمته مرهونة بألفين ، كذلك إذا رهنه عبدا بألف جاز أن يرهنه بألف أخرى ، فيصير العبد مرهونا بألفين .

                                                                                                                                            ولأن العبد قد يكون مرهونا بجنايته كما يكون مرهونا بحق مرتهنه ، ثم ثبت أنه لو جنى جناية صار مرهونا بها ولا يمنع من حدوث جناية ثانية يصير مرهونا بها . . كذلك إذا كان مرهونا بحق مرتهنه لم يمنع من حدوث حق ثان لمرتهنه ، فيصير مرهونا به .

                                                                                                                                            ولأنه لو كان مرهونا بألف وجنا جناية أرشها ألف فغرمها المرتهن بإذن الراهن على أن يكون العبد في يده رهنا بالألف الأولى التي كان مرهونا بها وبالألف التي غرسها جاز وصار العبد مرهونا بألفين ، كذلك إذا كان مرهونا بألف ، ثم حصل للمرتهن على الراهن ألف أخرى من معاملة على أن يكون العبد رهنا بالألف الأولى التي كان مرهونا بها وبالألف الثانية التي استحقها جاز وصار العبد مرهونا بألفين .

                                                                                                                                            ولأن الرهن في مقابلة الدين ، فلما جاز أن يزاد في الدين الواحد رهنا على رهن ، جاز أن يزاد في الرهن الواحد دينا على دين .

                                                                                                                                            وإذا قلنا بقوله في الجديد : إن ذلك لا يجوز فوجهه أن يقال : لو جاز أن يرتهنه بحق آخر لجاز أن يكون رهنا عند شخص آخر ، فلما لم يجز أن يكون رهنا عند شخص آخر لم يجز أن يرتهنه بحق آخر .

                                                                                                                                            [ ص: 89 ] ألا ترى أنه لما جاز أن يضمن لشخص جاز أن يضمن له حقا آخر .

                                                                                                                                            ولأن الرهن وكل جزء منه مرهون بالحق وبكل جزء منه بدليل أنه لو قضاه الحق إلا جزءا منه كان الرهن كله مرهونا في الجزء الباقي منه ، فلم يجز أن يصير مرهونا بحق آخر لاشتغاله بالحق الأول كمن أجر دارا سنة لم يجز أن يؤاجرها ثانية لاشتغالها بالعقد الأول .

                                                                                                                                            ولأن الرهن لا يجوز أن يكون متقدما على الحق ، فلو جاز إدخال حق ثان على الرهن لصار الرهن متقدما على الحق .

                                                                                                                                            ولأن الرهن يتبع البيع لاقترانه به ، واشتراطه فيه ، فيجري عليه حكمه فلما لم يجز إذا ابتاع شيئا أن يبتاعه ثانية مع بقاء العقد الأول ، لم يجز إذا ارتهن شيئا أن يرتهنه ثانية مع بقاء العقد الأول .

                                                                                                                                            فصل : فأما الجواب عن الضمان ، فالمعنى فيه أن الضمان لا يستغرق ذمة الضامن بدليل أنه يجوز أن يضمن لشخص آخر فجاز أن يضمن له حقا آخر ، وليس كذلك الرهن : لأن الحق قد استغرقه . . ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون رهنا عند شخص آخر فكذلك لا يجوز أن يرتهنه بحق آخر .

                                                                                                                                            وكذلك الجواب عن دخول الجناية على الجناية : أنه لما جاز أن يطرأ أرش على أرشه ، جاز أن يطرأ أرشه على أرشه ، ولما لم يجز أن يطرأ رهن غيره على رهنه ، لم يجز أن يطرأ رهنه على رهنه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن المرتهن إذا فداه من جنايته وصار مرهونا بهما : فقد اختلف أصحابنا ، فقال بعضهم : إن الحكم في الموضعين سواء وكلاهما على قولين ، فعلى هذا سقط السؤال .

                                                                                                                                            وقال آخرون : بل يجوز في الجناية قولا واحدا ، وهو منصوص الشافعي ، والفرق بينهما من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الجناية إذا طرأت على الرهن صار الرهن معلولا بها لتعرضه للفسخ فجاز أن يزاد في الحق كالبيع في زمان الخيار لما كان معرضا للفسخ جاز أن يزاد في الثمن وليس كذلك في غير الجناية : لأن الرهن غير معرض للفسخ ، فلم يجز أن يزاد في الحق كالبيع بعد تقضي الخيار لما لم يكن معرضا للفسخ لم يجز أن يزاد في الثمن .

                                                                                                                                            والثاني : أن في ارتهانه بما قد فداه من أرش جنايته استصلاحا لرهنه فجاز أن يرتهنه بها [ ص: 90 ] ثانية مع بقاء الرهن الأول كما يفدي المشتري عبده إذا جنى على البائع فيبيعه منه ثانية كما يفديه مع بقاء البيع الأول .

                                                                                                                                            وليس كذلك في غير الجناية لأنه ليس فيه استصلاح للرهن الأول كما لم يجز أن يبتاعه ثانية في غير الجناية مع بقاء العقد الأول .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلال المزني : أنه لما جازت الزيادة في الرهن على دين واحد ، جازت الزيادة في الدين على رهن واحد ، فيقال : الدين مستغرق للرهن وليس الرهن مستغرقا للدين بدليل أن سقوط الدين يبطل الرهن ، وسقوط الرهن لا يبطل الدين ، فلذلك جاز دخول رهن ثان على أول في دين واحد ولم يجز دخول دين ثان على أول في رهن واحد .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية