الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو مات في يديه وقد دلس له فيه بعيب قبل أن يختار فسخ البيع لم يكن له أن يختار لما فات من الرهن " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال ، إذا دلس الراهن على المرتهن حتى خفي عليه ، ثم علم المرتهن به فلا يخلو حال الرهن بعد علم المرتهن بعيبه من أحد أمرين ، إما أن يكون باقيا أو تالفا ، فإن كان باقيا فللمرتهن فسخ الرهن والبيع ، لأجل ما ظهر عليه من العيب ، كما لو ظهر فيما ابتاعه عيب .

                                                                                                                                            وإذا بذل له الراهن أرش العيب ليزول عنه الضرر فيمتنع من الفسخ لم يلزم [ ص: 186 ] المرتهن قبول الأرش ، وكان له فسخ الرهن والبيع لاستحقاقه بوجود العيب كالمشتري الذي يستحق رد ما ابتاعه لوجود العيب .

                                                                                                                                            وإن بذل له الأرش ، فلو لم يعلم المرتهن بالعيب حتى حدث عنده بالرهن عيب آخر كان له فسخ الرهن والبيع ، بخلاف المشتري الذي ليس له الرد بالعيب إذا حدث عنده عيب آخر ، والفرق بينهما : أن عيب المبيع إذا حدث في يد المشتري من ضمانه ، فلم يكن له أن يرده بعد حدوث عيبه ، وليس عيب الرهن إذا حدث في يد المرتهن من ضمانه ، وكان له رده بعد حدوث عيبه .

                                                                                                                                            فلو لم يعلم المرتهن بالعيب حتى ارتفع في يده كان في خياره في فسخ البيع وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : له الخيار اعتبارا بوجوبه في الابتداء .

                                                                                                                                            والثاني : لا خيار له ، اعتبارا بسقوطه في الانتهاء .

                                                                                                                                            فصل : وإذا كان الرهن تالفا قبل علم المرتهن بعيبه ، كعبد مات في يده ، أو ثوب سرق من حرزه ، ثم علم حينئذ بعيبه فلا خيار له في فسخ البيع لفوات رده ولا رجوع له بأرشه ، فإن قيل : أليس للمشتري الرجوع بأرشه عند فوات رده ؟ فهلا كان للمرتهن الرجوع بأرشه عند فوات رده ؟ قيل الفرق بينهما من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن البائع لما أجبر على تسليم المبيع سليما أجبر على تسليم أرشه معيبا ، ولما لم يجبر الراهن على تسليم الرهن سليما ، لم يجبر على تسليم أرشه معيبا .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما وجب على البائع رد الثمن عند تعذر تسليم المبيع وجب عليه رد الأرش عند تعذر رد المبيع ، ولما لم يجب على الراهن دفع الحق عند تعذر تسليم الرهن لم يجب عليه رد الأرش لفوات رد الرهن .

                                                                                                                                            والثالث : أنه لما كان في منع المشتري من الأرش تفويت لحقه كان له الرجوع به ، ولما لم يكن في منع المرتهن من الأرش تفويت لحقه ، لأن حقه موثق في ذمة راهنه لم يكن له الرجوع به .

                                                                                                                                            فصل : وإذا ارتهن عبدين فقبض أحدهما فمات في يده ومات الآخر في يد راهنه أو مات في يده ، لم يكن للمرتهن رد البيع لفوات رد ما تلف بيده .

                                                                                                                                            فصل : إذا ارتهن عبدا فقتل في يد مرتهنه ، ثم علم المرتهن بعيب كان به ، فإن كان قتله قد أوجب مالا ، ترك مكانه رهنا ، وللمرتهن فسخ البيع : لأنه وإن فات رد العبد بعينه [ ص: 187 ] فقد رد ما قام مقامه من قيمته ، وإن كان قد أوجب قصاصا اقتص له من قاتله ، وليس للمرتهن فسخ البيع لأنه وإن كان في اقتصاص سيده واسترجاع بدله لما لم يكن له الفسخ مع خروجه بالقتل والقصاص من يده ، فأولى ألا يكون له الفسخ إذا علم بعيبه .

                                                                                                                                            فصل : فلو بيع الرهن في حق المرتهن ، ثم علم المرتهن بتقدم عيبه ليس للمرتهن فسخ البيع وإن كان الثمن باقيا ، فإن قيل : فهلا كان له فسخ البيع ورد الثمن ، لأن الثمن بدل يقوم مقامه كالمجني عليه إذا أخذت قيمته ، ثم علم المرتهن بعيبه تكون القيمة المأخوذة قائمة مقام رده بعيبه ، وله فسخ البيع .

                                                                                                                                            قيل : الفرق بين المبيع والمجني عليه أن المبيع قد عاوض عليه سليما ، ولم يكن نقص العيب مؤثرا إذا لم يظهر عيبه إلا بعد نفوذ بيعه كالمشتري إذا باع ثم ظهر على عيب له لم يكن له فسخ ولا أرش ، وليس المجني عليه كذلك لأن المأخوذ فيه قيمته التي كان يساويها وقت الجناية مع نقصه بالعيب فافترقا .

                                                                                                                                            فلو أن مشتري الرهن ظهر على عيبه فرده به ، وطالب برد ثمنه نظر ، فإن استرجع الثمن من يد المرتهن أو من يد العدل الموضوع على يده الرهن ، فللمرتهن فسخ البيع ، لأن الرهن قد عاد إلى حكمه قبل البيع .

                                                                                                                                            وإن كان المشتري قد رجع على الراهن بالثمن ولم يسترجعه من يد المرتهن فليس للمرتهن فسخ البيع لسلامة الثمن له وارتفاع ضرر النقص عنه ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية