فصل : وأما القسم السادس وهو : وهو أن يشترك صانعان ليعملا بأبدانهما ويشتركان في كسبهما فهذه شركة باطلة وقال شركة الأبدان مالك : تجوز إذا كانا متفقي الصنعة ولا تجوز إذا كانا مختلفي الصنعة ، وقال أبو حنيفة : تجوز مع اتفاق الصنعة واختلافها ولا تجوز في الأعيان المستفادة بالعمل كالاصطياد والاحتطاب .
وقال أحمد بن حنبل : تجوز في كل ذلك حتى في الاصطياد والاحتشاش استدلالا بما روي أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر رضي الله عنهم اشتركوا فيما يغنمونه يوم بدر ، فغنم سعد بعيرين وقيل بل أسر أسيرين ولم يغنم الآخران شيئا واقتسموا هذه الشركة في الأبدان لا في الأموال ، وقالوا ولأن الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى وقتنا هذا يتشاركون بأبدانهم فلا يتناكرونه ولا ينكر عليهم فصار ذلك إجماعا منهم ، ولأنه نوع شركة فوجب أن يكون منها ما يصح كشركة الأموال ، ولأن عمل البدن أصلا قد يستفاد به المال إذا انفرد والمال فرع عليه لا يستفاد به النماء إلا مع العمل فلما صحت الشركة في الأموال فأولى أن تصح في أعمال الأبدان ، ولأن العامل في القراض شريك ببدنه في مال غير مماثل لعمله فكانت الشركة في أعمال الأبدان المماثلة أولى .
ودليلنا نهيه صلى الله عليه وسلم عن الغرر ، وشركة الأبدان غرر ؛ لأنه قد يعمل أحدهما ولا يعمل الآخر ، وقد يعمل أحدهما أقل من الآخر ولأنها شركة عريت عن مشترك في الحال فوجب أن تكون باطلة ، أصله إذا اشتركا فيما يستوهبانه .
ولأنها شركة في منافع أعيان متميزة فوجب أن تكون باطلة إذا اشتركا في بعيرين لا يؤجراهما ويشتركا في أجرتهما : ولأن المقصود من شركة الأبدان هو العمل كما أن المقصود من شركة الأموال هو المال فلما كانت الجهالة بقدر المال فوجب فساد الشركة ووجب أن تكون الجهالة بالعمل توجب فساد الشركة ، والعمل مجهول بكل حال لأن ما يعمله كل واحد منهما غير مقدر ، وقد يمرض فلا يعمل ، ويتحرر من اعتلال هذا الاستدلال قياسان :
أحدهما : هو أن وقوع الجهالة بحصة كل منهما يمنع من صحة الشركة كما لو خلطا مالين لا يعرفان قدرهما .
والثاني : هو أنها معاوضة لو كانت في الأموال بطلت بالجهالة فوجب إذا كانت في الأعمال أن تبطل بالجهالة ، أصله إذا قال قد استأجرتك لتبني لي على ألا أضبع لك .
وأما الجواب عن استدلالهم في اشتراك سعد وابن مسعود وعمار رضي الله عنهم فيما يغنمون فهو أن حكم الغنيمة أن الشركة فيها واقعة بالعمل دون الشرط ألا ترى أنه لما لم يكن بين الغانمين شرط كانت غنيمة أحدهم شركة بينهم .
[ ص: 480 ] وأما استدلالهم بالإجماع فغير صحيح لأن الإجماع مأخوذ من الأقوال لا من الأفعال .
كما أن أبا حنيفة لم يجعل إجماع الناس على أخذ أجرة التعليم في الكتاتيب دليلا على جواز أخذ الأجرة في تعليم القرآن .
وأما قياسهم على شركة العنان فقد تقدم الجواب عنه من قبل .
وأما استدلالهم بأن العمل في الكسب أصل والمال فرع فلما جازت الشركة في الفرع فأولى أن تجوز في الأصل ، فالجواب عنه أن شركة الأبدان إنما بطلت لجهالة العمل وهذا معتبر في شركة الأموال لأنها بطلت بجهالة المال فاستويا ، وأما استدلالهم بالقراض فالمعنى فيه أن العمل فيه تبع للمال وجهالة البيع لا تمنع من صحة العقد إذا كان الأصل معلوما وليس كذلك شركة الأبدان لأن العمل فيها هو الأصل المقصود فبطلت بكون العمل مجهولا ، فإذا ثبت فساد شركة الأبدان فلا يخلو أن يكون عمل كل واحد منهما متميزا أو غير متميز ، فإن كان متميزا اختص كل واحد منهما بأجرة عمله ، وإن كان العمل غير متميز كان ما حصل لهما من الكسب مقسوما بينهما على قدور أجور أمثالهما فيصرف لكل واحد منهما من الكسب بقسطه من أجرة مثله .