الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " فإذا فارق الأربع ثلاثا تزوج مكانهن في عدتهن : لأن الله - تعالى - أحل لمن لا امرأة له أربعا ، وقال بعض الناس : لا ينكح أربعا حتى تنقضي عدة الأربع : لأني لا أجيز أن يجتمع ماؤه في خمس ، أو في أختين ( قلت ) فأنت تزعم لو خلا بهن ولم يصبهن أن عليهن العدة فلم يجتمع فيهن ماؤه فأبيح له النكاح ، وقد فرق الله تعالى بين حكم الرجل والمرأة فجعل إليه الطلاق وعليها العدة ، فجعلته يعتد معها ثم ناقضت في العدة ( قال ) وأين ؟ قلت : إذ جعلت عليه العدة كما جعلتها عليها ، أفيجتنب ما تجتنب المعتدة من الطيب والخروج من المنزل ؟ قال : لا ، قلت ، فلا جعلته في العدة بمعناها ، ولا فرقت بما فرق الله تعالى به بينه وبينها وقد جعلهن الله منه أبعد من الأجنبيات : لأنهن لا يحللن له إلا بعد نكاح زوج وطلاقه أو موته وعدة تكون بعده ، والأجنبيات يحللن له من ساعته " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال . إذا كان له أربع زوجات فطلقهن وأراد أن يعقد على أربع سواهن ، أو على أخت واحدة منهن لم يخل طلاقه من أن يكون قبل الدخول أو بعده ، فإن كان قبل الدخول جاز له عقيب طلاقهن ، سواء كان طلاقه ثلاثا أو دونها ، وإن كان قد دخل بهن لم يخل طلاقه من أن يكون بائنا أو رجعيا ، فإن كان رجعيا واحدة أو اثنتين بغير عوض ، لم يكن له العقد على أحد حتى ينقص عددهن : لأنهن من الزوجات ما كن في عددهن لوقوع طلاقه وظهاره عليهن ، وحصول التوارث بينه وبينهن ، فلو انقضت عدة واحدة منهن جاز العقد على أختها أو على خامسة غيرها ، ولو انقضت عدة اثنتين جاز له العقد على اثنتين ، ولو انقضت عدة ثلاث جاز له العقد على ثلاث ، ولو انقضت عدة الأربع جاز له العقد على الأربع ، وإن كان الطلاق بائنا إما أن يكون ثلاثا أو دونها بعوض ، فقد اختلف الفقهاء : هل له أن يتزوج في عددهن بأربع سواهن أو بأخت كل واحدة منهن ؟

                                                                                                                                            فذهب الشافعي إلى جوازه .

                                                                                                                                            وبه قال من الصحابة : زيد بن ثابت .

                                                                                                                                            ومن التابعين : سعيد بن المسيب والزهري .

                                                                                                                                            [ ص: 170 ] ومن الفقهاء : مالك .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا يجوز إلا بعد انقضاء عدتهن .

                                                                                                                                            وبه قال من الصحابة علي ، وابن عباس .

                                                                                                                                            ومن التابعين : سفيان الثوري : استدلالا بعموم قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف وهذا نص لما به يعقد في أختين ، ولأنها معتدة في حقه من طلاقه ، فلم يحل له العقد على أختها كالرجعية ، واحترز بقوله : " من حقه " من أن يدعي المطلق انقضاء عدتها وينكر ، فيكون القول قول المطلق في استباحة عقده على أختها ، والقول قولها في بقاء عدتها ، وتكون معتدة في حقها لا في حقه ، واحترز بقوله : " من طلاقه " من ردتها ، فإنه يجوز له أن يتزوج بأختها وإن كانت المرتدة في عدتها ومن أن يطأ أمة ثم يبيعها ، فيجوز أن يتزوج بأختها ، وإن كانت الأمة تستبرئ نفسها من وطئه ، قال : ولأن كل جمع منح منه عقد النكاح منعت منه العدة كالجمع بين زوجين : لأن العقد قد حرم عليها نكاح غيره من الأزواج كما حرم عليه نكاح أختها من النساء ، ثم كان تحريم غيره باقيا عليها في العدة ، وجب أن يكون تحريم أختها باقيا عليه في العدة .

                                                                                                                                            ودليلنا في قوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم [ النساء : 3 ] . وقد يطيب له نكاح أختها في عدتها ، ولأنه جمع حرم على الزوج بالعقد فوجب أن يرتفع بالطلاق كالمطلقة قبل الدخول ، فإن قيل : فالمطلقة قبل الدخول لما لم يحرم عليها نكاح غيره لم يحرم عليه ، والمطلقة بعد الدخول لما حرم عليها نكاح غيره حرم عليه .

                                                                                                                                            قيل : إنما حرم عليها بعد الدخول نكاح غيره : لأنها معتدة ولم يحرم عليه : لأنه غير معتد ، ولأنها مبتوتة يحل له نكاح أختها بعد العدة ، فحل له نكاح أختها قبل العدة كالمخبرة بانقضاء العدة ، ولأنها فرقة يمنع من وقوع طلاقه فوجب أن يبيح ما حرم من الجمع بعقدة كالوفاة ، ولأنها لا تحل له إلا بنكاح جديد ، فلم يحرم عليه نكاح أختها لأجلها كالأجنبية ، ولأن المبتوتة من العدة أغلظ تحريما عليه من الأجنبية : لأن الأجنبية تحل بالعقد في الحال ، وهذه لا تحل له إلا بعقد بعد عدتين وزوج ، فلم يجز وهي أغلظ تحريما من الأجانب أن يحرم بها ما لا يحرم بالأجانب ، ولأن العدة تختص بالمرأة دون الزوج ، لقوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة : 228 ] . فلو منعت من النساء ما منعت من الرجال للزم من العدة كما ألزمت ، ولو لزم من أحكام العدة كما لزمها لزمه سائر أحكامها من تحريم الطيب والزينة كما لزمها ، وفي المنع من إبراء أحكام العدة عليها فيما سوى النكاح منع من إجراء حكمها عليه في تحريم النكاح .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين [ النساء : 23 ] . فهو أن الطلاق مفرق فكيف يصير به جامعا ، والجمع من الاجتماع ، والفرقة ضد الاجتماع .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الرجعية ، فتلك زوجته يقع عليها طلاقه ، وظهاره ، وتستحق بينهما [ ص: 171 ] التوارث ، وهذه قد صارت أجنبية : لأنها لا يلحقها طلاقه ولا ظهاره ، ولا يتوارثان ، فلم يجز أن يجمع بينهما في تحريم الجمع ، كما لم يجمع بينهما في النكاح والعقد .

                                                                                                                                            وأما قياسهم عليها ، فالمعنى فيها أنها معتدة ، والمعتدة محرم عليها نكاح غيره لئلا يختلط ماؤه بماء غيره ، وليس كذلك الرجل : لأنه غير معتد ، وليس في عقده على غيرها اختلاط مائين فافترقا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية