الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما البكر الكبيرة فللأب - أو للجد عند فقد الأب - أن يزوجها جبرا كالصغيرة ، وإنما يستأذنها على استطابة النفس من غير أن يكون شرطا في جواز العقد .

                                                                                                                                            وبه قال ابن أبي ليلى ، وأحمد ، وإسحاق .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : ليس للأب إجبار البكر البالغ على العقد إلا عن إذن .

                                                                                                                                            وبه قال الأوزاعي والثوري : فجعل الإجبار معتبرا بالصغيرة دون البكارة ، وجعل الشافعي الإجبار معتبرا بالبكارة دون الصغر ، واستدل من نص قول أبي حنيفة برواية عطاء عن جابر : أن رجلا زوج ابنته - وهي بكر - فمات ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما . وبرواية عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : استأمروا النساء في أبضاعهن ، فكان على عمومه ، ولأنها متصرفة في مالها ، فلا يجوز إجبارها على النكاح كالثيب : ولأن كل من زال عنه الحجر في ماله ، زال عنه الحجر في نكاحه كالرجل .

                                                                                                                                            ودليلنا رواية الشافعي عن مالك عن عبد الله بن الفضل عن نافع بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الثيب أحق بنفسها من وليها ، والبكر تستأذن في نفسها ، وإذنها صماتها فلما جعل الثيب أحق بنفسها من وليها علم أن ولي البكر أحق بها من نفسها ، ويكون قوله : والبكر تستأذن في نفسها محمولا على الاستحباب دون الوجوب استطابة للنفس : لأنه لو كان محمولا على الوجوب لصارت أحق بنفسها من وليها كالثيب .

                                                                                                                                            [ ص: 53 ] ومن القياس : أن كل من جاز له قبض صداقها بعد رضاها جاز له عقد نكاحها بغير رضاها كالأمة وكالبكر الصغيرة : ولأن ما استحق بالولاية في نكاح الصغيرة استحق بالولاية في نكاح الكبيرة قياسا على طلب الكفاءة ، ولما ذكره الشافعي من أنه : لو لم يكن له تزويجها جبرا في الكبر ، لما كان له تفويت بضعها في الصغر ، كالطفل يقتل أبوه لما لم يكن لوليه تفويت خياره عليه في القود والدية بعد البلوغ لم يكن له تفويته عليه قبل البلوغ ، وكان القاتل محبوسا حتى يبلغ ، فيختار أحد الأمرين .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهذا يبطل بالصبي ، فإن للأب أن يجبره على النكاح قبل البلوغ ، وليس له إجباره بعد البلوغ .

                                                                                                                                            قلنا : ليس في تزويج الابن تفويت لما يقدر على استدراكه : لأنه يقدر على الطلاق إن شاء ، وله أن يتزوج غيرها من النساء ، والثيب لا تقدر على خلاص نفسها من عقد الأب إن لم يشأ .

                                                                                                                                            وأما خبر عائشة فهو محمول على الثيب دون البكر تخصيصا بما ذكرناه .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الثيب فالمعنى فيها : أنه لما لم يجز للأب قبض صداقها إلا بإذنها لم يجز له عقد نكاحها إلا بإذنها ، ولما جاز للأب قبض صداق البكر بغير رضاها عند أبي حنيفة ، وهو أحد قولي الشافعي ، جاز له أن يعقد نكاحها بغير رضاها : لأن التصرف في المبدل معتبر بالتصرف في البدل .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الرجل فالمعنى فيه أنه لما لم يكن للأب أن يعترض عليه في نكاحه لم يكن له أن يجبره عليه وليس كذلك البكر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية