الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1036 121 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: قلت لأبي أسامة: حدثكم عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إنه يبين الإبهام الذي في الترجمة، ففسره أولا بقوله: وسمى النبي صلى الله عليه وسلم السفر يوما وليلة، وثانيا بقوله: وكان ابن عمر . . إلى آخره، وثالثا بهذا الحديث الذي رواه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ; لأن إبهام الترجمة وإطلاقه يتناول الكل.

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله، وهم خمسة:

                                                                                                                                                                                  الأول: إسحاق ، قال أبو علي الجياني : حيث قال البخاري حدثنا إسحاق، فهو ابن راهويه ، وإما ابن نصر السعدي ، وإما ابن منصور الكوسج ; لأن الثلاثة أخرج عنهم البخاري ، عن أبي أسامة . قال الكرماني : إسحاق هو الحنظلي .

                                                                                                                                                                                  قلت: هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم، يعرف بابن راهويه الحنظلي المروزي ، والصواب معه ; لأنه ساق هذا الحديث في مسنده بهذه العبارة.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أبو أسامة حماد بن أسامة الليثي ، وقد مر غير مرة.

                                                                                                                                                                                  الثالث: عبيد الله بن عمر العمري ، وقد مر عن قريب.

                                                                                                                                                                                  الرابع: نافع مولى ابن عمر .

                                                                                                                                                                                  الخامس: عبد الله بن عمر .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده:

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه قال: وقلت. وفيه أن شيخه مروزي، وأبو أسامة كوفي ، وعبيد الله ونافع مدنيان. وفيه دليل لمن قال: إنه لا يشترط في صحة الناقل قول الشيخ نعم في جواب من قال له حدثكم فلان بكذا، قال بعضهم: فيه نظر ; لأن مسند إسحاق في آخره: وأقر به أبو أسامة وقال نعم.

                                                                                                                                                                                  قلت: فيه نظر ; لأن هذا المستدل إنما استدل بظاهر عبارة البخاري التي تساعده فيه على ما لا يخفى. وفيه أن شيخه مذكور بغير نسبة، ويحتمل وجه ذلك أنه روى هذا الحديث من هؤلاء الثلاثة المسمى كل منهم بإسحاق ، ولم ينسبه ليتناول الثلاثة ; لأنه أخرج عن الثلاثة عن أبي أسامة .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه مسلم أيضا، عن أبي بكر بن أبي شيبة .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم أيضا من طريق الضحاك بن عثمان ، عن نافع : مسيرة ثلاث ليال، والتوفيق بين الروايتين أن المراد ثلاثة أيام بلياليها، وثلاث ليال بأيامها.

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستنبط منه:

                                                                                                                                                                                  احتج به أبو حنيفة ، وأصحابه، وفقهاء أصحاب الحديث - على أن المحرم شرط في وجوب الحج على المرأة إذا كانت بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام ولياليها. وبه قال النخعي ، والحسن البصري ، والثوري ، والأعمش .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: الحج لم يدخل في السفر الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه محمول على الأسفار غير الواجبة، والحج فرض، فلا يدخل في هذا النهي.

                                                                                                                                                                                  قلت: النهي عام في كل سفر، ويؤيده ما رواه البخاري ، ومسلم ، فقال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، كلاهما عن سفيان ، قال أبو بكر حدثنا سفيان بن عيينة قال: حدثنا عمرو بن دينار ، عن أبي معبد قال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال: انطلق فحج مع امرأتك . ولفظ البخاري يجيء في موضعه إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه ابن ماجه ، والطحاوي أيضا، ولفظ الطحاوي : أردت أن أحج بامرأتي، فقال [ ص: 127 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: احجج مع امرأتك . فدل ذلك على أنها لا ينبغي لها أن تحج إلا به، ولولا ذلك لقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما حاجتها إليك ; لأنها تخرج مع المسلمين، وأنت فامض لوجهك فيما اكتتبت، ففي ترك النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمره بذلك، وأمره أن يحج معها - دليل على أنها لا يصلح لها الحج إلا به. وروى ابن حزم حديث ابن عباس هذا في " المحلى " بسنده كما مر، غير أن في لفظه: إني نذرت أن أخرج في جيش كذا، عوض قوله: إني اكتتبت في غزوة كذا، ثم قال: ولم يقل صلى الله عليه وسلم: لا تخرج إلى الحج إلا معك، ولا نهاها عن الحج، بل ألزمه ترك نذره في الجهاد، وألزمه الحج معها، فالفرض في ذلك عليه لا عليها.

                                                                                                                                                                                  قلت: إنما قال ذلك توجيها لمذهبه في أن المرأة تحج من غير زوج ومحرم، فإن كان لها زوج ففرض عليه أن يحج معها، وليس كما فهمه، بل الحديث في نفس الأمر حجة عليه ; لأنه لما قال له: فاخرج معها، وأمر بالخروج معها، فدل على عدم جواز سفرها إلا به، أو بمحرم، وإنما ألزمه بترك نذره لتعلق جواز سفرها به.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: ظاهر الحديث يدل على أن الزوج أو المحرم إذا امتنع عن الخروج معها في الحج أنه يجبر على ذلك، ومع هذا فأنتم تقولون: إذا امتنع الزوج أو المحرم لا يجبر عليه.

                                                                                                                                                                                  قلت: فليكن كذلك، فلا يضرنا هذا، وإنما قصدنا إثبات شرطية الزوج أو المحرم مع المرأة إذا أرادت الحج، على أن هذا الأمر ليس بأمر إلزام، وإنما نبه بذلك على أن المرأة لا تسافر إلا بزوجها، ومذهب الشافعي ومالك : أن المرأة تسافر للحج الفرض بلا زوج ولا محرم، وإن كان بينها وبين مكة سفر أو لم يكن، وخصا النهي الوارد عن ذلك بالأسفار غير الواجبة.

                                                                                                                                                                                  ومذهب عطاء ، وسعيد بن كيسان ، وطائفة من الظاهرية : أنه يجوز سفر المرأة فيما دون البريد، فإذا كان بريدا فصاعدا، فليس لها أن تسافر إلا بمحرم، واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي قال: حدثنا أبو بكرة قال: حدثنا أبو عمر الضرير ، عن حماد بن سلمة قال: حدثنا سهيل بن أبي صالح ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسافر امرأة بريدا إلا مع زوج أو ذي محرم .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه البيهقي أيضا، ولفظه: لا تسافر المرأة بريدا إلا مع ذي محرم .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود نحوه.

                                                                                                                                                                                  وذهب الشعبي ، وطاوس ، وقوم من الظاهرية إلى أن المرأة لا يجوز لها أن تسافر مطلقا سواء كان السفر قريبا أو بعيدا إلا ومعها ذو محرم لها، واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي قال: حدثنا روح بن الفرج قال: حدثنا حامد بن يحيى قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: حدثنا ابن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم . قال الطحاوي : اتفقت الآثار التي فيها مدة الثلاث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم السفر ثلاثة أيام على المرأة بغير محرم.

                                                                                                                                                                                  واختلف فيما دون الثلاث، فنظرنا في ذلك، فوجدنا النهي عن السفر بلا محرم مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا - ثابتا بهذه الآثار كلها، وكان توقيته ثلاثة أيام في ذلك إباحة السفر دون الثلاث لها بغير محرم، ولولا ذلك لما كان لذكره الثلاث معنى، ولنهى نهيا مطلقا، ولم يتكلم بكلام يكون فصلا، ولكن ذكر الثلاث ليعلم أن ما دونها بخلافها، ثم ما روي عنه في منعها من السفر دون الثلاث من اليوم واليومين والبريد، فكل واحد من تلك الآثار ومن الأثر المروي في الثلاث متى كان بعد الذي خالفه شيخه، إن كان عن سفر اليوم بلا محرم بعد النهي عن سفر الثلاث بلا محرم فهو ناسخ، وإن كان خبر الثلاث هو المتأخر عنه فهو ناسخ، فقد ثبت أن أحد المعاني دون الثلاث ناسخة للثلاث، أو الثلاث ناسخة لها، فلم يخل خبر الثلاث من أحد وجهين: إما أن يكون هو المتقدم، أو يكون هو المتأخر، فإن كان هو المتقدم فقد أباح السفر بأقل من ثلاث بلا محرم، ثم جاء بعده النهي عن سفر ما هو دون الثلاث بغير محرم، فحرم ما حرم الحديث الأول وزاد عليه حرمة أخرى، وهي ما بينه وبين الثلاث، فوجب استعمال الثلاث على ما أوجبه الأثر المذكور فيه، وإن كان هو المتأخر وغيره المتقدم فهو ناسخ لما تقدمه، والذي تقدمه غير واجب العمل به، فحديث الثلاث واجب استعماله على الأحوال كلها، وما خالفه فقد يجب استعماله إن كان هو المتأخر، ولا يجب إن كان هو المتقدم، فالذي قد وجب علينا استعماله والأخذ به في كلا الوجهين أولى مما يجب استعماله في حال وتركه في حال، انتهى.

                                                                                                                                                                                  وقال القاضي عياض : وقوله في الرواية الواحدة عن أبي سعيد : ثلاث ليال، وفي الأخرى: يومين، وفي الأخرى: أكثر من ثلاث، وفي حديث ابن عمر : ثلاث، وفي حديث أبي هريرة : مسيرة ليلة، وفي الأخرى عنه: يوم وليلة، وفي الأخرى عنه: ثلاث، وهذا كله ليس يتنافر ولا يختلف.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 128 ] فيكون صلى الله عليه وسلم منع من ثلاث، ومن يومين، ومن يوم، أو يوم وليلة، وهو أقلها، وقد يكون قوله صلى الله عليه وسلم هذا في مواطن مختلفة ونوازل متفرقة، فحدث كل من سمعها بما بلغه منها وشاهده، وإن حدث بها واحد فحدث بها مرات على اختلاف ما سمعها، وبحسب اختلاف هذه الروايات اختلف الفقهاء في تقصير المسافر، وأقل السفر.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: حديث الباب الذي رواه عمر الذي فيه تعيين ثلاثة أيام، وأنه ممنوع إلا بذي محرم، وقد روي عنه من قوله - خلاف ذلك.

                                                                                                                                                                                  قال الطحاوي : حدثنا علي بن عبد الرحمن قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا بكر بن مضر ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكير أن نافعا حدثه أنه كان يسافر مع ابن عمر مواليات له ليس معهن ذو محرم.

                                                                                                                                                                                  قلت: قد يجوز أن يكون سفرهن بغير محرم هو السفر الذي لم يدخل فيما نهى عنه صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله " مواليات " بضم الميم أي نساء مواليات من الموالاة، وعقد الموالاة أن يسلم رجل على يد آخر فيواليه فيقول أنت مولاي ترثني إذا مت وتعقل عني إذا جنيت، فهذا عقد صحيح، وكذا لو أسلم على يد رجل ووالى غيره.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها كانت تسافر بغير محرم، فأخذ به جماعة، وجوزوا سفرها بغير محرم.

                                                                                                                                                                                  قلت: كان الناس لعائشة محرما ; لأنها أم المؤمنين، فمع أيهم سافرت فقد سافرت بمحرم، وليس الناس لغيرها من النساء كذلك، وهذا الجواب من أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية