الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1091 172 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  اعترض بأنه لا مطابقة بين الحديث والترجمة ; لأن الحديث مطلق والترجمة مقيدة، وأجيب بأن مراده أن استدامة العقد إنما يكون على ترك الصلاة، وجعل من صلى وانحلت عقده كمن لم يعقد عليه لزوال أثره، وقال بعضهم: يحتمل أن تكون الصلاة المنفية في الترجمة صلاة العشاء، فيكون التقدير: إذا لم يصل العشاء، فكأنه يرى أن الشيطان إنما يفعل ذلك لمن نام قبل صلاة العشاء بخلاف من صلاها ولا سيما في الجماعة. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): قوله: " إذا لم يصل " أعم من أن لا يصلي العشاء أو غيرها من صلاة الليل، ولا قرينة لتقييدها بالعشاء، وظاهر الحديث يدل على أن العقد يكون عند النوم سواء صلى قبله أو لم يصل، ويؤيد هذا ما رواه ابن زنجويه في "كتاب الفضائل" من حديث أبي لهيعة عن أبي عشانة سمع عقبة بن عامر يقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقوم أحدكم من الليل يعالج طهوره وعليه عقد، فإذا وضأ يده انحلت عقدة، فإذا وضأ وجهه انحلت عقدة، فإذا مسح برأسه انحلت عقدة، فإذا وضأ رجليه انحلت عقدة "، ومن حديث ابن لهيعة أيضا عن أبي الزبير " عن جابر رضي الله تعالى عنه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليس في الأرض نفس من ذكر وأنثى إلا وعلى رأسه جرير معقدة، فإن استيقظ فتوضأ انحلت عقدة، وإن استيقظ وصلى حلت العقد كلها، وإن لم يصل ولم يتوضأ أصبحت العقد كما هي " والجرير بفتح الجيم الحبل، وفي "كتاب الثواب" لآدم بن أبي إياس العسقلاني من حديث الربيع بن صبيح عن الحسن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من عبد ينام إلا وعلى رأسه ثلاث عقد، فإن هو تعار من الليل فسبح الله وحمده وهلله وكبره حلت عقدة، وإن عزم الله له فقام وتوضأ وصلى ركعتين حلت العقد كلها، وإن لم يفعل شيئا من ذلك حتى يصبح أصبح والعقد كلها كما هي " .

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم خمسة. كلهم قد ذكروا غير مرة، وأبو الزناد بالزاي والنون عبد الله بن ذكوان ، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز ، والحديث أخرجه أبو داود أيضا.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 193 ] (ذكر معناه) قوله: يعقد الشيطان الكلام في العقد والشيطان، أما العقد فقد اختلفوا فيه فقال بعضهم: هو على الحقيقة بمعنى السحر للإنسان ومنعه من القيام، كما يعقد الساحر من سحره، وأكثر ما يفعله النساء تأخذ إحداهن الخيط فتعقد منه عقدا، وتتكلم عليها بالكلمات فيتأثر المسحور عند ذلك كما أخبر الله تعالى في كتابه الكريم: ومن شر النفاثات في العقد فالذي خذل يعمل فيه، والذي وفق يصرف عنه، والدليل على كونه على الحقيقة ما رواه ابن ماجه ومحمد بن نصر من طريق صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا: على قافية رأس أحدكم حبل فيه ثلاث عقد وروى أحمد من طريق الحسن ، عن أبي هريرة بلفظ: إذا نام أحدكم عقد على رأسه بجرير .

                                                                                                                                                                                  وروى ابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر مرفوعا: ما من ذكر ولا أنثى إلا على رأسه جرير معقود حين يرقد وقال بعضهم: هو على المجاز كأنه شبه فعل الشيطان بالنائم بفعل الساحر بالمسحور، وقيل: هو من عقد القلب وتصميمه، فكأنه يوسوس بأن عليك ليلا طويلا فيتأخر عن القيام بالليل، وقال صاحب النهاية: المراد منه تثقيله في النوم وإطالته، فكأنه قد سد عليه سدا وعقد عليه عقدا. وقال ابن بطال : قد فسر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم معنى العقد بقوله: عليك ليل طويل فكأنه يقولها إذا أراد النائم الاستيقاظ.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال أيضا: ورأيت لبعض من فسر هذا الحديث العقد الثلاث هي الأكل والشرب والنوم. وقال: ألا يرى أنه من أكثر الأكل والشرب أنه يكثر النوم، لذلك واستبعد بعضهم هذا القول لقوله في الحديث: (إذا هو نام) فجعل العقد حينئذ. وقال ابن قرقول : هو مثل، واستعاره من عقد بني آدم.

                                                                                                                                                                                  وليس المراد العقد نفسها ولكن لما كان بنو آدم يمنعون بعقدهم ذلك تصرف من يحاول فيما عقده كان هذا مثله من الشيطان للنائم الذي لا يقوم من نومه إلى ما يحب من ذكر الله تعالى والصلاة.

                                                                                                                                                                                  وأما الشيطان فيجوز أن يراد به الجنس ويكون فاعل ذلك القرين أو غيره من أعوان الشيطان. وقال بعضهم: يحتمل أن يراد به رأس الشياطين، وهو إبليس لعنه الله (قلت): يعكر عليه شيئان ; أحدهما: أن النائمين عن قيام الليل كثير لا يحصى، فإبليس لا يلحقهم بذلك إلا أن يكون جواز نسبة ذلك إليه لكونه آمرا لأعوانه بذلك، وهو الداعي إليه. والآخر: أن مردة الشياطين يصفدون في شهر رمضان وأكبرهم إبليس عليه اللعنة.

                                                                                                                                                                                  قوله: على قافية رأس أحدكم أي مؤخر عنقه، وقد ذكرنا أن قافية كل شيء مؤخره، ومنه قافية القصيدة، وفي المحكم: القافية هي القفا، وقيل هي وسط الرأس. قولها: إذا هو نام أي حين نام، ورواية الأكثرين هكذا إذا هو نام، وفي رواية الحموي والمستملي إذا هو نائم على وزن اسم الفاعل، وقال بعضهم: والأول أصوب، وهو الذي في الموطإ. (قلت): رواية الموطإ لا تدل على أن ذلك أصوب، بل الظاهر أن رواية المستملي أصوب ; لأنها جملة اسمية، والخبر فيها اسم.

                                                                                                                                                                                  قوله: ثلاث عقد كلام إضافي منصوب ; لأنه مفعول لقوله: يعقد والعقد بضم العين وفتح القاف جمع عقدة.

                                                                                                                                                                                  قوله: يضرب على كل عقدة ، وفي رواية المستملي على مكان كل عقدة، وفي رواية الكشميهني عند مكان كل عقدة ومعنى يضرب: يضرب بيده على كل عقدة ذكر هذا تأكيدا وإحكاما لما يفعله وقيل: يضرب بالرقاد ومنه قوله تعالى: فضربنا على آذانهم في الكهف ومعناه حجب الحس عن النائم حتى لا يستيقظ.

                                                                                                                                                                                  قوله: عليك ليل طويل أي يضرب قائلا: عليك ليل طويل، ووقع في جميع روايات البخاري هكذا ليل طويل بالرفع فيهما فارتفاع ليل بالابتداء وعليك خبره مقدما، وارتفاع طويل بالوصفية، ويجوز أن يكون ارتفاع ليل بفعل محذوف وتقديره بقي عليك ليل طويل، والجملة مقول القول المحذوف; أي يضرب كل عقدة قائلا هذا الكلام، ووقع في رواية أبي مصعب في الموطإ عن مالك : عليك ليلا طويلا، وهي رواية سفيان بن عيينة عن أبي الزناد في رواية مسلم . قال عياض : رواية الأكثرين عن مسلم بالنصب على الإغراء. وقال القرطبي : الرفع أولى من جهة المعنى ; لأنه الأمكن في الغرور من حيث إنه يخبره عن طول الليل، ثم يأمره بالرقاد بقوله: فارقد. وإذا نصب على الإغراء لم يكن فيه إلا الأمر بملازمة طول الرقاد، وحينئذ يكون قوله: فارقد ضائعا.

                                                                                                                                                                                  (قلت): لا نسلم أنه يكون ضائعا، بل يكون تأكيدا ثم إن مقصود الشيطان بذلك تسويفه بالقيام والإلباس عليه.

                                                                                                                                                                                  قوله: فذكر الله انحلت عقدة بالإفراد وكذلك قوله: فإن توضأ انحلت عقدة بالإفراد، وقوله: فإن صلى انحلت عقده ; بضم العين بلفظ الجمع هذا لا خلاف فيه في رواية البخاري ، ووقع لبعض رواة الموطإ بالإفراد، وذكر ابن قرقول أنه اختلف في الأخيرة منها، فوقع في رواية الموطإ لابن وضاح [ ص: 194 ] انحلت عقد على الجمع، وكذا ضبطناه في البخاري وفي غيرهما عقدة، وكلاهما صحيح والجمع أولى لا سيما وقد جاء مسلم في الأولى عقدة وفي الثانية عقدان وفي الثالثة انحلت العقد.

                                                                                                                                                                                  قوله: أصبح نشيطا أي لسروره بما وفقه الله تعالى من الطاعة وطيب النفس لما بارك الله له في نفسه وتصرفه في كل أموره، وبما زال عنه من عقد الشيطان.

                                                                                                                                                                                  قوله: وإلا أصبح خبيث النفس يعني بتركه ما كان اعتاده أو نواه من فعل الخير.

                                                                                                                                                                                  قوله: كسلان يعني ببقاء أثر تثبيط الشيطان عليه. قال الكرماني : واعلم أن مقتضى وإلا أصبح أن من لم يجمع الأمور الثلاثة: الذكر والوضوء والصلاة فهو داخل تحت من يصبح خبيثا كسلان، وإن أتى ببعضها. (قلت): فعلى هذا تقدير الكلام: وإن لم يذكر ولم يتوضأ ولم يصل ; يصبح خبيث النفس كسلان.

                                                                                                                                                                                  (الأسئلة والأجوبة) منها ما قيل: إن أبا بكر وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهما كانا يوتران أول الليل وينامان آخره، (وأجيب) بأن المراد الذي ينام ولا نية له في القيام، وأما من صلى من النافلة ما قدر له ونام بنية القيام، فلا يدخل في ذلك، وقال صاحب التوضيح بدليل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من امرئ يكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صلاة ذكره ابن التين .

                                                                                                                                                                                  (قلت): روى ابن حبان في صحيحه في "باب من نوى أن يصلي من الليل" من حديث شعبة قال أبو ذر - أو أبو الدرداء شك شعبة - قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من عبد يحدث نفسه بقيام ساعة من الليل فينام عنها إلا كان نومه صدقة تصدق الله بها عليه وكتب له أجر ما نوى .

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل: إن في هذا الحديث ما يعارض قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ، (وأجيب) بأن النهي إنما ورد عن إضافة المرء ذلك إلى نفسه كراهة لتلك الكلمة، وهذا الحديث وقع ذما لفعله ولكل من الخبرين وجه. وقال الباجي : ليس بين الحديثين اختلاف ; لأنه نهي عن إضافة ذلك إلى النفس لكون الخبث بمعنى فساد الدين ووصف بعض الأفعال بذلك تحذيرا منها وتنفيرا.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل ما فائدة تقييد العقد بالثلاث، (وأجيب) بأنه إما تأكيد وإما لأن ما ينحل به العقد ثلاثة أشياء: الذكر والوضوء والصلاة ، فكأن الشيطان منع عن كل واحد منها بعقدة عقدها على قافيته.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل: ما وجه تخصيص قافية الرأس بضرب العقد عليها (وأجيب): بأنها محل الواهمة ومحل تصرفها، وهي أطوع القوى للشيطان وأسرعها إجابة لدعوته.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل: إنه قد يظن أن بين هذا الحديث وبين ما رواه البخاري وغيره أن قارئ آية الكرسي عند نومه لا يقربه شيطان تعارض، (وأجيب): بأن المراد من العقد إن كان أمرا معنويا ومن القرب أمرا حسيا أو بالعكس فلا إشكال، وإن كان كلاهما معنويا أو بالعكس فيكون أحدهما مخصوصا، والأقرب أن يكون حديث الباب مخصوصا بمن لم يقرأ آية الكرسي لطرد الشيطان.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) فيه أن الذكر يطرد الشيطان وكذا الوضوء والصلاة ولا يتعين للذكر شيء مخصوص لا يجزئ غيره، بل كل ما يصدق عليه ذكر الله تعالى أجزأه، ويدخل فيه تلاوة القرآن، وأولى ما يذكر فيه ما سيجيء في "باب فضل من تعار من الليل" إن شاء الله تعالى (فإن قلت): كيف حكم الجنب فهل تحل عقدته بالوضوء ؟ (قلت): لا تحل إلا بالاغتسال وتخصيص الوضوء بالذكر لكونه الغالب، والتيمم يقوم مقامهما عند جوازه، والله أعلم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية