الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الركن الثالث : الشهادة ، فلا ينعقد النكاح إلا بحضرة رجلين مسلمين مكلفين حرين عدلين سميعين بصيرين متيقظين عارفين لسان المتعاقدين . وقيل : يصح بالأعميين ، وحكى أبو الحسن العبادي - رحمه الله - وجها أنه ينعقد بمن لا يعرف لسان المتعاقدين ، لأنه ينقله إلى الحاكم . وأما المغفل الذي لا يضبط ، فلا ينعقد به ، وينعقد بمن يحفظ وينسى عن قريب .

                                                                                                                                                                        وفي الأخرس وذي الحرفة الدنية ، والصباغ ، والصائغ ، وجهان . وفي عدوي الزوجين أو أحدهما ، أوجه . أصحها عند البغوي وهو المنصوص في الأم : الانعقاد . والثالث : ينعقد بعدوي أحدهما دون عدويهما ، واختاره العراقيون . [ ص: 46 ] وفي ابنيهما وابني أحدهما وابنه وابنها هذه الأوجه . وقيل : يختص الخلاف بهذه الصورة ، وينعقد في العدوين قطعا ، لأن العداوة قد تزول . وقيل : ينعقد بابنيها وعدويه دون ابنيه وعدويها ، لأنه محتاج إلى الإثبات دونها ، ويجري الخلاف في جده وجدها ، وأبيه مع جدها .

                                                                                                                                                                        وأما أبوها ، فولي عاقد ، فلا يكون شاهدا . ولو وكل ، لم ينعقد بحضوره ، لأن الوكيل نائبه ، وكذا لو وكل غير الأب وحضر مع شاهد آخر ، لم ينعقد . قال البغوي في " الفتاوى " : لو كان لها إخوة ، فزوج أحدهم ، وحضر آخران منهم شاهدين ، ففي صحة النكاح جوابان . وجه المنع : أن الشرع جعل المباشر نائبا عن الباقين فيما توجه عليهم .

                                                                                                                                                                        قلت : الراجح منهما ، الصحة . قال أصحابنا : وينعقد بحضرة ابنيه مع ابنيها ، أو عدويه مع عدويها بلا خلاف ، لإمكان إثبات شقته . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ينعقد النكاح بشهادة المستورين على الصحيح . وقال الاصطخري : لا . والمستور : من عرفت عدالته ظاهرا ، لا باطنا . وقال البغوي : لا ينعقد بمن لا تعرف عدالته ظاهرا ، وهذا كأنه مصور فيمن لا يعرف إسلامه ، وإلا ، فظاهر من حال المسلم الاحتراز من أسباب الفسق .

                                                                                                                                                                        قلت : الحق ، قول البغوي ، وأن مراده من لا يعرف ظاهره بالعدالة ، وقد صرح [ ص: 47 ] البغوي بهذا ، وقاله شيخه القاضي حسين ، ونقله إبراهيم المروذي عن القاضي ولم يذكر غيره . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ولا ينعقد بمن لا يظهر إسلامه وحريته ، بأن يكون في موضع يختلط فيه المسلمون بالكفار والأحرار بالعبيد ولا غالب . وتردد الشيخ أبو محمد في مستور الحرية ، والصحيح الأول ، بل لا يكتفى بظاهر الإسلام والحرية بالدار حتى يعرف حاله فيهما باطنا . هذا مقتضى كلام البغوي وغيره ، وفرقوا بأن الحرية يسهل الوقوف عليها ، بخلاف العدالة والفسق . ولو أخبر عدل بفسق المستور ، فهل يزول الستر فلا ينعقد بحضوره ، وإن زال فيسلك به مسلك الرواية ؟ أم يقال : هو شهادة فلا يقدح إلا قول من يجرح عند القاضي ؟ تردد فيهما الإمام .

                                                                                                                                                                        قلت : لو ترافع الزوجان إلى حاكم ، وأقرا بنكاح عقد بمستورين ، واختصما في حق زوجته ، كنفقة ونحوها ، حكم بينهما ، ولا ينظر في حال الشاهدين إلا أن يعلم فسقهما فلا يحكم . فإن جحد أحدهما النكاح ، فأقام المدعي مستورين ، لم يحكم بصحته ولا فساده ، بل يتوقف حتى يعلم باطنهما ، ذكره الشيخ أبو حامد وغيره . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو بان الشاهد فاسقا حال العقد ، فالنكاح باطل على المذهب ، كما لو بان كافرا أو عبدا ، وإنما يتبين الفسق ببينة أو بتصادق الزوجين أنهما كانا فاسقين ولم نعلمهما ، أو نسينا فسقهما . فأما لو قالا : علمنا ( فسقهما ) حينئذ ، أو علمه أحدنا ، فقال الإمام : نتبين البطلان بلا خلاف ، لأنهما لم يكونا مستورين عند الزوجين ، وعليهما التعويل ، [ ص: 48 ] ولا اعتبار بقول الشاهدين : كنا فاسقين يومئذ ، كما لا اعتبار بقولهما : كنا فاسقين بعد الحكم بشهادتهما ، وكذا لو تقار الزوجان أن النكاح وقع في الإحرام أو العدة أو الردة ، نتبين بطلانه ، ولا مهر إلا إذا كان دخل بها ، فيجب مهر المثل . فلو نكحها بعد ذلك ، ملك ثلاث طلقات . ولو اعترف الزوج بشيء من ذلك وأنكرت ، لم يقبل قوله عليها في المهر ، فيجب نصف المسمى إن كان قبل الدخول ، وكله إن كان بعده ، ويفرق بينهما بقوله . وفي سبيل هذا التفريق خلاف . قال أصحاب القفال : هو طلقة بائنة ، فلو نكحها يوما ، عادت بطلقتين . قالوا : وهذا مأخوذ من نص الشافعي - رضي الله عنه - ، أنه لو نكح أمة ، ثم قال : نكحتها وأنا واجد طول حرة ، بانت بطلقة . وعن الشيخ أبي حامد والعراقيين : أنها فرقة فسخ لا تنقص عدد الطلاق ، كما لو أقر الزوج بالرضاع . وإلى هذا مال الإمام ، والغزالي ، وهؤلاء أنكروا نصه في مسألة الأمة ، ولإنكاره وجه ظاهر ، لأنه نص في عيون المسائل أنه إذا نكح أمة ، ثم قال : نكحتها وأنا أجد طولا ، فصدقه مولاها ، فسخ النكاح بلا مهر ، فإن كان دخل ، فعليه مهر مثلها . وإن كذبه ، فسخ النكاح بإقراره ، ولم يصدق على المهر ، دخل أم لم يدخل . هذا لفظه وهو يوافق قول العراقيين .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح أو الصحيح ، قول العراقيين . وحكى العراقيون وجها : أنه يقبل قوله في المهر ، فلا يلزمه . وعلى هذا قالوا : إن كان اعترافه قبل الدخول ، فلا شيء عليه . وإن كان بعده ، فعليه أقل الأمرين من المسمى ومهر المثل ، ولا خلاف أنها إذا ماتت لا يرثها . وإن مات قبلها ، فإن قلنا : القول قوله ولم يكن حلف ، فيحلف وارثه : لا يعلمه تزوجها بشهادة عدلين ، ولا إرث لها . وإن قلنا : القول قولها ، حلفت أنه عقد بعدلين وورثت .

                                                                                                                                                                        ولو قالت : عقدنا بفاسقين ، فقال : بل بعدلين . فأيهما يقبل ؟ وجهان . الأصح : قوله . فإن مات ، لم ترثه ، وإن مات [ ص: 49 ] أو طلقها قبل الدخول ، فلا مهر ، لإنكارها ، وبعد الدخول لها أقل الأمرين من المسمى ومهر المثل . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        استتابة المستورين قبل العقد ، احتياط واستظهار ، وتوبة المعلن بالفسق حينئذ ، هل تلحقه بالمستور ؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد . والأصح : المنع . فإن ألحقنا فعاد إلى فجوره على قرب ، قال الإمام : فالظاهر أن تلك التوبة تكون ساقطة ، قال : وفيه احتمال .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        الاحتياط ، الإشهاد على رضى المرأة حيث يشترط رضاها ، لكنه ليس بشرط في صحة النكاح .

                                                                                                                                                                        قلت : ومن مسائل الفصل ، أنه لا يشترط إحضار الشاهدين ، بل إذا حضرا بأنفسهما ، وسمعا الإيجاب والقبول ، صح وإن لم يسمعا الصداق . ولو عقد بشهادة خنثيين ، ثم بانا رجلين ، قال القاضي أبو الفتوح : احتمل أن يكون في انعقاده وجهان بناء على ما لو صلى رجل خلفه فبان رجلا . هذا كلامه . والانعقاد هنا هو الأصح ، لأن عدم جزم النية يؤثر في الصلاة . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية