الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

فصل

الحب أصل الحركة

وكل حركة في العالم العلوي والسفلي فأصلها المحبة ، فهي عليها الفاعلية والغائية ، وذلك لأن الحركات ثلاثة أنواع : حركة اختيارية إرادية ، وحركة طبيعية ، وحركة قسرية .

والحركة الطبيعية أصلها السكون ، وإنما يتحرك الجسم إذا خرج عن مستقره ومركزه الطبيعي ، فهو يتحرك للعود إليه ، وخروجه عن مركزه ومستقره إنما هو بتحريك القاصر المحرك له ، فله حركة قسرية تتحرك بتحريك محركه وقاسره ، وحركة طبيعية بذاتها يطلب بها العود إلى مركزه ، وكلا حركتيه تابعة للقاسر المحرك ، فهو أصل الحركتين .

والحركة الاختيارية الإرادية هي أصل الحركتين الأخريين ، وهي تابعة للإرادة والمحبة .

والدليل على انحصار الحركات في هذه الثلاث : أن المتحرك إن كان له شعور بالحركة فهي الإرادية ، وإن لم يكن له شعور بها ، فإما أن تكون على وفق طبعه أو لا ، فالأولى هي الطبيعية ، والثانية القسرية ، إذا ثبت هذا فما في السماوات والأرض وما بينهما من حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والمطر والنبات وحركات الأجنة في [ ص: 201 ] بطون أمهاتها ، فإنما هي بواسطة الملائكة والمدبرات أمرا والمقسمات أمرا ، كما دل على ذلك في نصوص من القرآن والسنة في غير موضع ، والإيمان بذلك من تمام الإيمان بالملائكة ، فإن الله وكل بالرحم ملائكة ، وبالقطر ملائكة ، وبالنبات ملائكة ، وبالرياح ملائكة ، وبالأفلاك والشمس والقمر والنجوم ، ووكل بكل عبد أربعة من الملائكة ، كاتبين عن يمينه وشماله ، وحافظين من بين يديه ومن خلفه ، ووكل ملائكة بقبض روحه وتجهيزها إلى مستقرها في الجنة والنار ، وملائكة بمساءلته وامتحانه في قبره ، وملائكة بتعذيبه في النار أو نعيمه في الجنة ، ووكل بالجبال ملائكة ، وبالسحاب ملائكة تسوقه حيث أمرت به ، وبالقطر ملائكة تنزل بأمر الله بقدر معلوم كما شاء الله ، ووكل ملائكة بغرس الجنة وعمل آلتها وفرشها والقيام عليها ، وملائكة بالنار كذلك .

فأعظم جند الله الملائكة ، ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ غيره وليس لهم من الأمر شيء ، بل الأمر كله لله ، وهم يدبرون الأمر ويقسمونه بأمر الله وإذنه ، قال تعالى إخبارا عنهم : وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا [ سورة مريم : 64 ] .

وقال تعالى : وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى [ سورة النجم : 26 ] .

وأقسم سبحانه بطوائف من الملائكة المنفذين لأمره في الخليفة كما قال تعالى : والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا [ سورة الصافات : 1 - 3 ] .

وقال : والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا [ سورة المرسلات : 1 - 6 ] .

وقال تعالى : والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا [ سورة النازعات : 1 - 5 ] .

وقد ذكرنا معنى ذلك وسر الإقسام به في كتاب ( التبيان في أقسام القرآن ) .

[ ص: 202 ]

وإذا عرفت ذلك فجميع تلك المحبات والمحركات والإرادات والأفعال : هي عبادة منهم لرب الأرض والسماوات ، وجميع الحركات الطبيعية والقسرية تابعة لها ، فلولا الحب ما دارت الأفلاك ، ولا تحركت الكواكب النيرات ، ولا هبت الرياح المسخرات ، ولا مرت السحب الحاملات ، ولا تحركت الأجنة في بطون الأمهات ، ولا انصدع عن الحب أنواع النبات ، ولا اضطربت أمواج الزاخرات ، ولا تحركت المدبرات والمقسمات ، ولا سبحت بحمد فاطرها الأرضون والسماوات ، وما فيها من أنواع المخلوقات ، فسبحان من : تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا [ سورة الإسراء : 44 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية