فصل
nindex.php?page=treesubj&link=18794سوء الظن بالله
إذا تبين هذا فهاهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة ، وهو أن أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به ، فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس ، وظن به ما يناقض أسماءه وصفاته ، ولهذا توعد الله سبحانه الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=6عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا [ سورة الفتح : 6 ] .
وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=23وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [ سورة فصلت : 23 ] .
قال تعالى عن خليله
إبراهيم أنه قال لقومه :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=85ماذا تعبدون nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=86أئفكا آلهة دون الله تريدون nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=87فما ظنكم برب العالمين [ الصافات : 85 - 87 ] .
أي فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره ؟ وما ظننتم به حين عبدتم معه غيره ؟
وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره ؟ فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم ، وهو على كل شيء قدير ، وأنه غني عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فقير إليه ، وأنه قائم بالقسط على خلقه ، وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشركه فيه غيره ، والعالم بتفاصيل الأمور ، فلا يخفى عليه خافية من خلقه ، والكافي لهم وحده فلا يحتاج إلى معين ، والرحمن بذاته ، فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه ، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء ، فإنهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية
[ ص: 139 ] وحوائجهم ، ويعينهم إلى قضاء حوائجهم ، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة ، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة ، لحاجتهم وضعفهم وعجزهم وقصور علمهم .
فأما القادر على كل شيء ، الغني عن كل شيء ، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه نقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده ، وظن به ظن السوء ، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده ، ويمتنع في العقول والفطر جوازه ، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح .
يوضح هذا : أن العابد معظم لمعبوده ، متأله خاضع ذليل له ، والرب تعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والجلال والتأله والخضوع والذل ، وهذا خالص حقه ، فمن أقبح الظلم أن يعطي حقه لغيره ، أو يشرك بينه وبينه فيه ، ولا سيما إذا كان الذي جعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=28ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون [ سورة الروم : 28 ] .
أي : إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريكه في رزقه ، فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا به منفرد ؟ وهو الإلهية التي لا تنبغي لغيري ، ولا تصح لسواي .
فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري ، ولا عظمني حق تعظيمي ، ولا أفردني بما أنا مفرد به وحدي دون خلقي ، فما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=73ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=74ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز [ سورة الحج : 73 - 74 ] .
فما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره ، ممن لا يقدر على خلق أضعف حيوان وأصغره ، وإن سلبهم الذباب شيئا مما عليه لم يقدر على استنقاذه منه ، وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=67وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [ سورة الزمر : 67 ] فما قدر من هذا شأنه وعظمته حق قدره من أشرك معه في عبادته من ليس له شيء من
[ ص: 140 ] ذلك ألبتة ، بل هو أعجز شيء وأضعفه ، فما قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل .
وكذلك ما قدره حق قدره من قال : إنه لم يرسل إلى خلقه رسولا ، ولا أنزل كتابا ، بل نسبه إلى ما لا يليق به ولا يحسن منه ، من إهمال خلقه وتضييعهم وتركهم سدى ، وخلقهم باطلا وعبثا ، ولا قدره حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلا ، فنفى سمعه وبصره وإرادته واختياره وعلوه فوق خلقه ، وكلامه وتكليمه لمن شاء من خلقه بما يريده ، أو نفى عموم قدرته وتعلقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم ، فأخرجها عن قدرته ومشيئته وخلقه ، وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاءون بدون مشيئة الرب ، فيكون في ملكه ما لا يشاء ، ويشاء ما لا يكون . تعالى عن قول أشباه المجوس علوا كبيرا .
وكذلك ما قدره حق قدره من قال : إنه يعاقب عبده على ما لا يفعله العبد ، ولا له عليه قدرة ، ولا تأثير له فيه ألبتة ، بل هو نفس فعل الرب جل جلاله ، فيعاقب عبده على فعله هو سبحانه الذي جبر العبد عليه . وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق للمخلوق ، وإذا كان من المستقر في الفطر والعقول أن السيد لو أكره عبده على فعل ، أو ألجأه إليه ثم عاقبه عليه لكان قبيحا ، فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير ، ولا هو واقع بإرادته ، بل ولا هو فعله ألبتة ، ثم يعاقب عليه عقوبة الأبد ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وقول هؤلاء شر من أقوال
المجوس . والطائفتان ما قدروا الله حق قدره .
وكذلك ما قدره حق قدره من لم يصنه عن نتن ولا حش ، ولا مكان يرغب عن ذكره بل جعله في كل مكان ، صانه عن عرشه أن يكون مستويا عليه :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=10إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ سورة فاطر : 10 ] .
وتعرج الملائكة والروح إليه ، وتنزل من عنده :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=5يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه [ سورة السجدة : 5 ] .
فصانه عن استوائه على سرير الملك ، ثم جعله في كل مكان يأنف الإنسان ، بل غيره من الحيوان أن يكون فيه .
وما قدر الله حق قدره من نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته ، ولا من نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله ، ولا من نفى حقيقة
[ ص: 141 ] فعله ، ولم يجعل له فعلا اختياريا يقوم به ، بل أفعاله مفعولات منفصلة عنه ، فنفى حقيقة مجيئه وإتيانه واستوائه على عرشه ، وتكليمه
موسى من جانب
الطور ، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده بنفسه ، إلى غير ذلك من أفعاله وأوصاف كماله ، التي نفوها وزعموا أنهم بنفيها قدروه حق قدره .
وكذلك لم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة وولدا ، أو جعله سبحانه يحل في جميع مخلوقاته ، أو جعله عين هذا الوجود .
وكذلك لم يقدره حق قدره من قال : إنه رفع أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته وأعلى ذكرهم ، وجعل فيهم الملك والخلافة والعز ، ووضع أولياء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته وأهانهم وأذلهم وضرب عليهم الذل أينما ثقفوا ، وهذا يتضمن غاية القدح في جناب الرب . تعالى عن قول
الرافضة علوا كبيرا .
وهذا القول مشتق من قول
اليهود والنصارى في رب العالمين أنه أرسل ملكا ظالما ، فادعى النبوة لنفسه ، وكذب على الله ، ومكث زمانا طويلا يكذب على الله كل وقت ، ويقول : قال الله كذا ، وأمر بكذا ، ونهى عن كذا ، ينسخ شرائع أنبيائه ورسله ، ويستبيح دماء أتباعهم وأموالهم وحريمهم ، ويقول : الله أباح لي ذلك ، والرب تعالى يظهره ويؤيده ، ويعليه ، ويعزه ، ويجيب دعواته ، ويمكنه ممن خالفه ، ويقيم الأدلة على صدقه ، ولا يعاديه أحد إلا ظفر به ، فيصدقه بقوله وفعله وتقريره ، ويحدث أدلة تصديقه شيئا بعد شيء .
ومعلوم أن هذا يتضمن أعظم القدح والطعن في الرب سبحانه وتعالى ، وعلمه ، وحكمته ، ورحمته ، وربوبيته . تعالى عن قول الجاحدين علوا كبيرا .
فوازن بين قول هؤلاء ، وقول إخوانهم من
الرافضة ، تجد القولين كما قال الشاعر :
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما بأسحم داج عوض لا تتفرق
وكذلك لم يقدره حق قدره من قال أنه يجوز أن يعذب أولياءه ، ومن لم يعصه طرفة عين ، ويدخلهم دار الجحيم ، وينعم أعداءه ومن لم يؤمن به طرفة عين ، ويدخلهم دار النعيم ، وأن كلا الأمرين بالنسبة إليه سواء ، وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك ، فمعناه للخبر لا لمخالفة حكمته وعدله .
وقد أنكر سبحانه في كتابه على من جوز عليه ذلك غاية الإنكار ، وجعل الحكم به من أسوأ الأحكام .
قال تعالى :
[ ص: 142 ] nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=27وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=28أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ سورة ص : 27 - 28 ] .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=21أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=22وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون [ سورة الجاثية : 21 - 22 ] .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=35أفنجعل المسلمين كالمجرمين nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=36ما لكم كيف تحكمون [ سورة القلم : 35 - 36 ] وكذلك لم يقدره حق قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى ، ولا يبعث من في القبور ، ولا يجمع خلقه ليوم يجازي فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، ويأخذ للمظلوم حقه من ظالمه ، ويكرم المتحملين المشاق في هذه الدار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته ، ويبين لخلقه الذي يختلفون فيه ، ويعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين .
وكذلك لم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه ، ونهيه فارتكبه ، وحقه فضيعه ، وذكره فأهمله ، وغفل قلبه عنه ، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه ، وطاعة المخلوق أهم من طاعته ، فلله الفضلة من قلبه وقوله وعمله ، هواه المقدم في ذلك لأنه المهم عنده ، يستخف بنظر الله إليه ، واطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه ، ويستحي من الناس ولا يستحي من الله ، ويخشى الناس ولا يخشى الله ، ويعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه ، وإن عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره ، وإن قام في خدمة من يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد وبذل النصيحة ، وقد أفرغ له قلبه وجوارحه ، وقدمه على الكثير من مصالحه ، حتى إذا قام في حق ربه - إن ساعد القدر - قام قياما لا يرضاه مخلوق من مخلوق مثله ، وبذل له من ماله ما يستحي أن يواجه به مخلوقا مثله ، فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه ؟
وهل قدره حق قدره من شارك بينه وبين عدوه في محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذل والخضوع والخوف والرجاء ؟ فلو جعل له من أقرب الخلق إليه شريكا في ذلك لكان ذلك جراءة وتوثبا على محض حقه واستهانة به وتشريكا بينه وبين غيره ، ولا ينبغي ولا يصلح إلا له سبحانه ، فكيف وإنما شرك بينه وبين غيره أبغض الخلق إليه ، وأهونهم عليه ، وأمقتهم عنده ، وهو عدوه على الحقيقة ؟ فإنه ما عبد من دون الله إلا الشيطان ، كما قال تعالى :
[ ص: 143 ] nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=60ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=61وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم [ سورة يس : 60 - 61 ] .
ولما عبد المشركون الملائكة بزعمهم وقعت عبادتهم في نفس الأمر للشياطين ، وهم يظنون أنهم يعبدون الملائكة .
كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=40ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=41قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ سورة سبأ : 40 - 41 ] .
فالشيطان يدعو المشرك إلى عبادته ، ويوهمهم أنه ملك ، وكذلك عباد الشمس والقمر والكواكب ، وهي التي تخاطبهم ، وتقضي لهم الحوائج ، ولهذا إذا طلعت الشمس قارنها الشيطان ، فيسجد لها الكفار ، فيقع سجودهم له ، وكذلك عند غروبها ، وكذلك من عبد المسيح وأمه لم يعبدهما وإنما عبد الشيطان .
فإنه يزعم أنه يعبد من أمره بعبادته وعبادة أمه ، ورضيها لهم وأمرهم بها ، وهذا هو الشيطان الرجيم ، لا عبد الله ورسوله ، فنزل هذا كله على قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=60ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=61وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم .
فما عبد أحد من بني آدم غير الله كائنا من كان إلا وقعت عبادته للشيطان ، فيستمتع العابد بالمعبود في حصول غرضه ، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له ، وإشراكه مع الله الذي هو غاية رضا الشيطان ، ولهذا قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=128ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس أي : من إغوائهم وإضلالهم
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=128وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم [ سورة الأنعام : 128 ] .
فهذه إشارة لطيفة إلى
nindex.php?page=treesubj&link=10016_19715_29437_30523السر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله ، وأنه لا يغفره بغير التوبة منه ، وأنه يوجب الخلود في العذاب ، وأنه ليس تحريمه وقبحه بمجرد النهي عنه ، بل يستحيل على الله سبحانه أن يشرع لعباده عبادة إله غيره ، كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ، ونعوت جلاله ، وكيف يظن بالمنفرد بالربوبية والإلهية والعظمة والإجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك ، أو يرضى به ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
[ ص: 144 ]
فَصْلٌ
nindex.php?page=treesubj&link=18794سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ
إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَهَاهُنَا أَصْلٌ عَظِيمٌ يَكْشِفُ سِرَّ الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ أَنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِهِ ، فَإِنَّ الْمُسِيءَ بِهِ الظَّنَّ قَدْ ظَنَّ بِهِ خِلَافَ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ ، وَظَنَّ بِهِ مَا يُنَاقِضُ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ ، وَلِهَذَا تَوَعَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الظَّانِّينَ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ بِمَا لَمْ يَتَوَعَّدْ بِهِ غَيْرَهُمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=6عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [ سُورَةُ الْفَتْحِ : 6 ] .
وَقَالَ تَعَالَى لِمَنْ أَنْكَرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=23وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ سُورَةُ فُصِّلَتْ : 23 ] .
قَالَ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ
إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=85مَاذَا تَعْبُدُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=86أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=87فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [ الصَّافَّاتِ : 85 - 87 ] .
أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ أَنْ يُجَازِيَكُمْ بِهِ إِذَا لَقِيتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ ؟ وَمَا ظَنَنْتُمْ بِهِ حِينَ عَبَدْتُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ ؟
وَمَا ظَنَنْتُمْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ مِنَ النَّقْصِ حَتَّى أَحْوَجَكُمْ ذَلِكَ إِلَى عُبُودِيَّةِ غَيْرِهِ ؟ فَلَوْ ظَنَنْتُمْ بِهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ ، وَالْعَالِمُ بِتَفَاصِيلِ الْأُمُورِ ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ خَلْقِهِ ، وَالْكَافِي لَهُمْ وَحْدَهُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعِينٍ ، وَالرَّحْمَنُ بِذَاتِهِ ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي رَحْمَتِهِ إِلَى مَنْ يَسْتَعْطِفُهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ ، فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى مَنْ يُعَرِّفُهُمْ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ
[ ص: 139 ] وَحَوَائِجَهُمْ ، وَيُعِينُهُمْ إِلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ ، وَإِلَى مَنْ يَسْتَرْحِمُهُمْ وَيَسْتَعْطِفُهُمْ بِالشَّفَاعَةِ ، فَاحْتَاجُوا إِلَى الْوَسَائِطِ ضَرُورَةً ، لِحَاجَتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ وَقُصُورِ عِلْمِهِمْ .
فَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ ، فَإِدْخَالُ الْوَسَائِطِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ نَقْصٌ بِحَقِّ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ ، وَظَنٌّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ ، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَشْرَعَهُ لِعِبَادِهِ ، وَيَمْتَنِعُ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ جَوَازُهُ ، وَقُبْحُهُ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ فَوْقَ كُلِّ قَبِيحٍ .
يُوَضِّحُ هَذَا : أَنَّ الْعَابِدَ مُعَظِّمٌ لِمَعْبُودِهِ ، مُتَأَلِّهٌ خَاضِعٌ ذَلِيلٌ لَهُ ، وَالرَّبُّ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ كَمَالَ التَّعْظِيمِ وَالْجَلَالِ وَالتَّأَلُّهِ وَالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ ، وَهَذَا خَالِصُ حَقِّهِ ، فَمِنْ أَقْبَحِ الظُّلْمِ أَنْ يُعْطِيَ حَقَّهُ لِغَيْرِهِ ، أَوْ يُشْرِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِيهِ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الَّذِي جُعِلَ شَرِيكَهُ فِي حَقِّهِ هُوَ عَبْدُهُ وَمَمْلُوكُهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=28ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ سُورَةُ الرُّومِ : 28 ] .
أَيْ : إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يَأْنَفُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُهُ شَرِيكَهُ فِي رِزْقِهِ ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لِي مِنْ عَبِيدِي شُرَكَاءَ فِيمَا أَنَا بِهِ مُنْفَرِدٌ ؟ وَهُوَ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي لَا تَنْبَغِي لِغَيْرِي ، وَلَا تَصِحُّ لِسِوَايَ .
فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَمَا قَدَرَنِي حَقَّ قَدْرِي ، وَلَا عَظَّمَنِي حَقَّ تَعْظِيمِي ، وَلَا أَفْرَدَنِي بِمَا أَنَا مُفْرَدٌ بِهِ وَحْدِي دُونَ خَلْقِي ، فَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=73يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=74مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 73 - 74 ] .
فَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ ، مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ أَضْعَفِ حَيَوَانٍ وَأَصْغَرِهِ ، وَإِنْ سَلَبَهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا مِمَّا عَلَيْهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ مِنْهُ ، وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=67وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [ سُورَةُ الزُّمَرِ : 67 ] فَمَا قَدَرَ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ وَعَظَمَتُهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ فِي عِبَادَتِهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ
[ ص: 140 ] ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ ، بَلْ هُوَ أَعْجَزُ شَيْءٍ وَأَضْعَفُهُ ، فَمَا قَدَرَ الْقَوِيَّ الْعَزِيزَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ الضَّعِيفَ الذَّلِيلَ .
وَكَذَلِكَ مَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ إِلَى خَلْقِهِ رَسُولًا ، وَلَا أَنْزَلَ كِتَابًا ، بَلْ نَسَبَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا يَحْسُنُ مِنْهُ ، مِنْ إِهْمَالِ خَلْقِهِ وَتَضْيِيعِهِمْ وَتَرْكِهِمْ سُدًى ، وَخَلْقِهِمْ بَاطِلًا وَعَبَثًا ، وَلَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ نَفَى حَقَائِقَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا ، فَنَفَى سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَإِرَادَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ وَعُلُوَّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ ، وَكَلَامَهُ وَتَكْلِيمَهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ بِمَا يُرِيدُهُ ، أَوْ نَفَى عُمُومَ قُدْرَتِهِ وَتَعَلُّقَهَا بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ ، فَأَخْرَجَهَا عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ ، وَجَعَلَهُمْ يَخْلُقُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشَاءُونَ بِدُونِ مَشِيئَةِ الرَّبِّ ، فَيَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ ، وَيَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ . تَعَالَى عَنْ قَوْلِ أَشْبَاهِ الْمَجُوسِ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَكَذَلِكَ مَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ يُعَاقِبُ عَبْدَهُ عَلَى مَا لَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ ، وَلَا لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ ، وَلَا تَأْثِيرٌ لَهُ فِيهِ أَلْبَتَّةَ ، بَلْ هُوَ نَفْسُ فِعْلِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ ، فَيُعَاقِبُ عَبْدَهُ عَلَى فِعْلِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَبَرَ الْعَبْدَ عَلَيْهِ . وَجَبْرُهُ عَلَى الْفِعْلِ أَعْظَمُ مِنْ إِكْرَاهِ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ ، وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ أَكْرَهَ عَبَدَهُ عَلَى فِعْلٍ ، أَوْ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ ثُمَّ عَاقَبَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ قَبِيحًا ، فَأَعْدَلُ الْعَادِلِينَ وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ كَيْفَ يَجْبُرُ الْعَبْدَ عَلَى فِعْلٍ لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ صُنْعٌ وَلَا تَأْثِيرٌ ، وَلَا هُوَ وَاقِعٌ بِإِرَادَتِهِ ، بَلْ وَلَا هُوَ فِعْلُهُ أَلْبَتَّةَ ، ثُمَّ يُعَاقِبُ عَلَيْهِ عُقُوبَةَ الْأَبَدِ ؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ، وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ أَقْوَالِ
الْمَجُوسِ . وَالطَّائِفَتَانِ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ .
وَكَذَلِكَ مَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ لَمْ يَصُنْهُ عَنْ نَتَنٍ وَلَا حُشٍّ ، وَلَا مَكَانٍ يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهِ بَلْ جَعَلَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ، صَانَهُ عَنْ عَرْشِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=10إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [ سُورَةُ فَاطِرٍ : 10 ] .
وَتَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ، وَتَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=5يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [ سُورَةُ السَّجْدَةِ : 5 ] .
فَصَانَهُ عَنِ اسْتِوَائِهِ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ ، ثُمَّ جَعَلَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَأْنَفُ الْإِنْسَانُ ، بَلْ غَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ .
وَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ نَفَى حَقِيقَةَ مَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَمَقْتِهِ ، وَلَا مَنْ نَفَى حَقِيقَةَ حِكْمَتِهِ الَّتِي هِيَ الْغَايَاتُ الْمَحْمُودَةُ الْمَقْصُودَةُ بِفِعْلِهِ ، وَلَا مَنْ نَفَى حَقِيقَةَ
[ ص: 141 ] فِعْلِهِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا يَقُومُ بِهِ ، بَلْ أَفْعَالُهُ مَفْعُولَاتٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ ، فَنَفَى حَقِيقَةَ مَجِيئِهِ وَإِتْيَانِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ ، وَتَكْلِيمِهِ
مُوسَى مِنْ جَانِبِ
الطُّورِ ، وَمَجِيئِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ بِنَفْسِهِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَوْصَافِ كَمَالِهِ ، الَّتِي نَفَوْهَا وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ بِنَفْيِهَا قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ .
وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ جَعَلَ لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا ، أَوْ جَعَلَهَ سُبْحَانَهُ يَحِلُّ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ ، أَوْ جَعَلَهُ عَيْنَ هَذَا الْوُجُودِ .
وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ رَفَعَ أَعْدَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَعْلَى ذِكْرَهُمْ ، وَجَعَلَ فِيهِمُ الْمُلْكَ وَالْخِلَافَةَ وَالْعِزَّ ، وَوَضَعَ أَوْلِيَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَأَهَانَهُمْ وَأَذَلَّهُمْ وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الذُّلَّ أَيْنَمَا ثُقِفُوا ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْقَدْحِ فِي جَنَابِ الرَّبِّ . تَعَالَى عَنْ قَوْلِ
الرَّافِضَةِ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَهَذَا الْقَوْلُ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ أَرْسَلَ مَلِكًا ظَالِمًا ، فَادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ ، وَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ ، وَمَكَثَ زَمَانًا طَوِيلًا يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ كُلَّ وَقْتٍ ، وَيَقُولُ : قَالَ اللَّهُ كَذَا ، وَأَمَرَ بِكَذَا ، وَنَهَى عَنْ كَذَا ، يَنْسَخُ شَرَائِعَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ ، وَيَسْتَبِيحُ دِمَاءَ أَتْبَاعِهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَحَرِيمَهُمْ ، وَيَقُولُ : اللَّهُ أَبَاحَ لِي ذَلِكَ ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُظْهِرُهُ وَيُؤَيِّدُهُ ، وَيُعْلِيهِ ، وَيُعِزُّهُ ، وَيُجِيبُ دَعَوَاتِهِ ، وَيُمَكِّنُهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ ، وَيُقِيمُ الْأَدِلَّةَ عَلَى صِدْقِهِ ، وَلَا يُعَادِيهِ أَحَدٌ إِلَّا ظَفِرَ بِهِ ، فَيَصْدُقُهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ ، وَيُحْدِثُ أَدِلَّةَ تَصْدِيقِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ أَعْظَمَ الْقَدْحِ وَالطَّعْنِ فِي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَعِلْمِهِ ، وَحِكْمَتِهِ ، وَرَحْمَتِهِ ، وَرُبُوبِيَّتِهِ . تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الْجَاحِدِينَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
فَوَازِنْ بَيْنَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ ، وَقَوْلِ إِخْوَانِهِمْ مِنَ
الرَّافِضَةِ ، تَجِدِ الْقَوْلَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
رَضِيعَيْ لِبَانِ ثَدْيِ أُمٍّ تَقَاسَمَا بِأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لَا تَتَفَرَّقُ
وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ أَوْلِيَاءَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَعْصِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وَيُدْخِلَهُمْ دَارَ الْجَحِيمِ ، وَيُنَعِّمَ أَعْدَاءَهُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وَيُدْخِلَهُمْ دَارَ النَّعِيمِ ، وَأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا الْخَبَرُ الْمَحْضُ جَاءَ عَنْهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، فَمَعْنَاهُ لِلْخَبَرِ لَا لِمُخَالَفَةِ حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ .
وَقَدْ أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى مَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ ، وَجَعَلَ الْحُكْمَ بِهِ مِنْ أَسْوَأِ الْأَحْكَامِ .
قَالَ تَعَالَى :
[ ص: 142 ] nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=27وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=28أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ سُورَةُ ص : 27 - 28 ] .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=21أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=22وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [ سُورَةُ الْجَاثِيَةِ : 21 - 22 ] .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=35أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=36مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [ سُورَةُ الْقَلَمِ : 35 - 36 ] وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُحْيِي الْمَوْتَى ، وَلَا يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ، وَلَا يَجْمَعُ خَلْقَهُ لِيَوْمٍ يُجَازِي فِيهِ الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ ، وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ حَقَّهُ مِنْ ظَالِمِهِ ، وَيُكْرِمُ الْمُتَحَمِّلِينَ الْمَشَاقَّ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ أَجْلِهِ وَفِي مَرْضَاتِهِ بِأَفْضَلِ كَرَامَتِهِ ، وَيُبَيِّنُ لِخَلْقِهِ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، وَيَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ .
وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ فَعَصَاهُ ، وَنَهْيُهُ فَارْتَكَبَهُ ، وَحَقُّهُ فَضَيَّعَهُ ، وَذِكْرُهُ فَأَهْمَلَهُ ، وَغَفَلَ قَلْبُهُ عَنْهُ ، وَكَانَ هَوَاهُ آثَرَ عِنْدَهُ مِنْ طَلَبِ رِضَاهُ ، وَطَاعَةُ الْمَخْلُوقِ أَهَمَّ مِنْ طَاعَتِهِ ، فَلِلَّهِ الْفَضْلَةُ مِنْ قَلْبِهِ وَقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ، هَوَاهُ الْمُقَدَّمُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ عِنْدَهُ ، يَسْتَخِفُّ بِنَظَرِ اللَّهِ إِلَيْهِ ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ بِكُلِّ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ ، وَيَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ ، وَيَخْشَى النَّاسَ وَلَا يَخْشَى اللَّهَ ، وَيُعَامِلُ الْخَلْقَ بِأَفْضَلِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ عَامَلَ اللَّهَ عَامَلَهُ بِأَهْوَنِ مَا عِنْدَهُ وَأَحْقَرِهِ ، وَإِنْ قَامَ فِي خِدْمَةِ مَنْ يُحِبُّهُ مِنَ الْبَشَرِ قَامَ بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ وَبَذْلِ النَّصِيحَةِ ، وَقَدْ أَفْرَغَ لَهُ قَلْبَهُ وَجَوَارِحَهُ ، وَقَدَّمَهُ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْ مَصَالِحِهِ ، حَتَّى إِذَا قَامَ فِي حَقِّ رَبِّهِ - إِنْ سَاعَدَ الْقَدَرُ - قَامَ قِيَامًا لَا يَرْضَاهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ ، وَبَذَلَ لَهُ مِنْ مَالِهِ مَا يَسْتَحِي أَنْ يُوَاجِهَ بِهِ مَخْلُوقًا مِثْلَهُ ، فَهَلْ قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ ؟
وَهَلْ قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ شَارَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ فِي مَحْضِ حَقِّهِ مِنَ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَالطَّاعَةِ وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ ؟ فَلَوْ جَعَلَ لَهُ مِنْ أَقْرَبِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ شَرِيكًا فِي ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ جَرَاءَةً وَتَوَثُّبًا عَلَى مَحْضِ حَقِّهِ وَاسْتِهَانَةً بِهِ وَتَشْرِيكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، وَلَا يَنْبَغِي وَلَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا شَرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَبْغَضَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ ، وَأَهْوَنَهُمْ عَلَيْهِ ، وَأَمْقَتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَهُوَ عَدُوُّهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ؟ فَإِنَّهُ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
[ ص: 143 ] nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=60أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=61وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [ سُورَةُ يس : 60 - 61 ] .
وَلَمَّا عَبَدَ الْمُشْرِكُونَ الْمَلَائِكَةَ بِزَعْمِهِمْ وَقَعَتْ عِبَادَتُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِلشَّيَاطِينِ ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ .
كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=40وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=41قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [ سُورَةُ سَبَأٍ : 40 - 41 ] .
فَالشَّيْطَانُ يَدْعُو الْمُشْرِكَ إِلَى عِبَادَتِهِ ، وَيُوهِمُهُمْ أَنَّهُ مَلَكٌ ، وَكَذَلِكَ عُبَّادُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ ، وَهِيَ الَّتِي تُخَاطِبُهُمْ ، وَتَقْضِي لَهُمُ الْحَوَائِجَ ، وَلِهَذَا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَارَنَهَا الشَّيْطَانُ ، فَيَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ، فَيَقَعُ سُجُودُهُمْ لَهُ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ غُرُوبِهَا ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَبَدَ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ لَمْ يَعْبُدْهُمَا وَإِنَّمَا عَبَدَ الشَّيْطَانَ .
فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْبُدُ مَنْ أَمَرَهُ بِعِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ أُمِّهِ ، وَرَضِيَهَا لَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِهَا ، وَهَذَا هُوَ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ ، لَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، فَنَزَلَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=60أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=61وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ .
فَمَا عَبَدَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ غَيْرَ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ إِلَّا وَقَعَتْ عِبَادَتُهُ لِلشَّيْطَانِ ، فَيَسْتَمْتِعُ الْعَابِدُ بِالْمَعْبُودِ فِي حُصُولِ غَرَضِهِ ، وَيَسْتَمْتِعُ الْمَعْبُودُ بِالْعَابِدِ فِي تَعْظِيمِهِ لَهُ ، وَإِشْرَاكِهِ مَعَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ رِضَا الشَّيْطَانِ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=128وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أَيْ : مِنْ إِغْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=128وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 128 ] .
فَهَذِهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=10016_19715_29437_30523السِّرِّ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ الشِّرْكُ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ بِغَيْرِ التَّوْبَةِ مِنْهُ ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي الْعَذَابِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ تَحْرِيمُهُ وَقُبْحُهُ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ عَنْهُ ، بَلْ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَشْرَعَ لِعِبَادِهِ عِبَادَةَ إِلَهٍ غَيْرِهِ ، كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ مَا يُنَاقِضُ أَوْصَافَ كَمَالِهِ ، وَنُعُوتَ جَلَالِهِ ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِالْمُنْفَرِدِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَالْعَظْمَةِ وَالْإِجْلَالِ أَنْ يَأْذَنَ فِي مُشَارَكَتِهِ فِي ذَلِكَ ، أَوْ يَرْضَى بِهِ ؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
[ ص: 144 ]