الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

الخطوة وأما الخطوات : فحفظها بأن لا ينقل قدمه إلا فيما يرجو ثوابه ،

فإن لم يكن في خطاه مزيد ثواب ، فالقعود عنها خير له ، ويمكنه أن يستخرج من كل مباح يخطو إليه قربة ينويها لله ، فتقع خطاه قربة .

[ ص: 162 ] ولما كانت العثرة عثرتين : عثرة الرجل وعثرة اللسان ، جاءت إحداهما قرينة الأخرى في قوله تعالى : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ سورة الفرقان : 63 ] .

فوصفهم بالاستقامة في لفظاتهم وخطواتهم ، كما جمع بين اللحظات والخطرات في قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [ سورة غافر : 19 ] .

فصل

وهذا كله ذكرناه مقدمة بين يدي تحريم الفواحش ووجوب حفظ الفرج ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : أكثر ما يدخل الناس النار : الفم ، والفرج .

وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ، وهذا الحديث في اقتران الزنى بالكفر وقتل النفس ، نظير الآية التي في الفرقان ، ونظير حديث ابن مسعود .

وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأكثر وقوعا ، والذي يليه ، فالزنى أكثر وقوعا من قتل النفس ، وقتل النفس أكثر وقوعا من الردة ، وأيضا فإنه تنقل من الأكبر إلى ما هو أكبر منه ، ومفسدة الزنى مناقضة لصلاح العالم : فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها ، ونكست رءوسهم بين الناس ، وإن حملت من الزنى ، فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنى والقتل ، وإن حملته على الزوج أدخلت على أهله وأهلها أجنبيا ليس منهم ، فورثهم وليس منهم ، ورآهم وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم ، إلى غير ذلك من مفاسد زناها .

وأما زنى الرجل فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضا ، وإفساد المرأة المصونة وتعريضها للتلف والفساد ، وفي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين ، وإن عمرت القبور في البرزخ والنار في الآخرة ، فكم في الزنى من استحلال لحرمات وفوات حقوق ووقوع مظالم ؟

ومن خاصيته : أنه يوجب الفقر ، ويقصر العمر ، ويكسو صاحبه سواد الوجه ، وثوب المقت بين الناس .

ومن خاصيته أيضا : أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمته ، ويجلب الهم والحزن والخوف ، ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان ، فليس بعد مفسدة القتل أعظم من [ ص: 163 ] مفسدته ، ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها ، ولو بلغ العبد أن امرأته أو حرمته قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت .

وقال سعد بن عبادة - رضي الله عنه - : لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : تعجبون من غيرة سعد ؟ والله لأنا أغير منه ، والله أغير مني ، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن . متفق عليه .

وفي الصحيحين أيضا عنه - صلى الله عليه وسلم - : إن الله يغار ، وإن المؤمن يغار ، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه .

وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - : لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله ، من أجل ذلك أثنى على نفسه .

وفي الصحيحين في خطبته - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف أنه قال : يا أمة محمد ، والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته ، يا أمة محمد ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، ثم رفع يديه وقال : اللهم هل بلغت ؟ .

وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقب صلاة الكسوف سر بديع لمن تأمله ، وظهور الزنى من أمارات خراب العالم ، وهو من أشراط الساعة ، كما في الصحيحين عن أنس بن مالك أنه قال : لأحدثنكم حديثا لا يحدثكموه أحد بعدي ، سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنى ويقل الرجال وتكثر النساء ، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد .

وقد جرت سنة الله سبحانه في خلقه أنه عند ظهور الزنى يغضب الله سبحانه وتعالى ويشتد غضبه ، فلا بد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبة .

قال عبد الله بن مسعود : ما ظهر الربا والزنى في قرية إلا أذن الله بإهلاكها .

ورأى بعض أحبار بني إسرائيل ابنه يغمز امرأة ، فقال : مهلا يا بني ، فصرع الأب عن سريره فانقطع نخاعه وأسقطت امرأته ، وقيل له : هكذا غضبك لي ؟ لا يكون في جنسك خير أبدا .

وخص سبحانه حد الزنى من بين الحدود بثلاث خصائص :

أحدها : القتل فيه بأشنع القتلات ، وحيث خففه جمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة .

[ ص: 164 ] الثاني : أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه ، بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم ، فإنه سبحانه من رأفته بهم ورحمته بهم شرع هذه العقوبة ؛ فهو أرحم بكم ، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة ، فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره .

وهذا - وإن كان عاما في سائر الحدود - ولكن ذكر في حد الزنى خاصة لشدة الحاجة إلى ذكره ، فإن الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلظة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر ، فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم غيره من أرباب الجرائم ، والواقع شاهد بذلك ، فنهوا أن تأخذهم هذه الرأفة وتحملهم على تعطيل حد الله .

وسبب هذه الرحمة : أن هذا ذنب يقع من الأشراف والأوساط والأراذل ، وفي النفوس أقوى الدواعي إليه ، والمشارك فيه كثير ، وأكثر أسبابه العشق ، والقلوب مجبولة إلى رحمة العاشق ، وكثير من الناس يعد مساعدته طاعة وقربة ، وإن كانت الصورة المعشوقة محرمة عليه ، ولا يستنكر هذا الأمر ، فهو مستقر عند ما شاء الله من أشباه الأنعام ، ولقد حكى لنا من ذلك شيئا كثيرا نقاص العقول كالخدام والنساء .

وأيضا فإن هذا ذنب غالبا ما يقع مع التراضي من الجانبين ، ولا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما تنفر النفوس منه .

وفي النفوس شهوة غالبة له فيصور ذلك لها ، فتقوم بها رحمة تمنع إقامة الحد ، وهذا كله من ضعف الإيمان . وكمال الإيمان أن تقوم به قوة يقيم بها أمر الله ، ورحمة يرحم بها المحدود ، فيكون موافقا لربه تعالى في أمره ورحمته .

الثالث : أنه سبحانه أمر أن يكون حدهما بمشهد من المؤمنين ، فلا يكون في خلوة بحيث لا يراهما أحد ، وذلك أبلغ في مصلحة الحد ، والحكمة الزجر ، وحد الزاني المحصن مشتق من عقوبة الله تعالى لقوم لوط بالقذف بالحجارة ، وذلك لاشتراك الزنا واللواط في الفحش ، وفي كل منهما فساد يناقض حكمة الله في خلقه وأمره ، فإن في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر والتعداد ، ولأن يقتل المفعول به خير له من أن يؤتى ، فإنه يفسد فسادا لا يرجى له بعده صلاح أبدا ، ويذهب خيره كله ، وتمص الأرض ماء الحياء من وجهه ، فلا يستحي بعد ذلك من الله ولا من خلقه ، وتعمل في قلبه وروحه نطفة الفاعل ما يعمل السم في البدن .

وقد اختلف الناس هل يدخل الجنة مفعول به ؟ على قولين ، سمعت شيخ الإسلام يحكيهما .

والذين قالوا : لا يدخل الجنة احتجوا بأمور :

منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يدخل الجنة ولد زنية فإذا كان هذا حال ولد الزنى مع [ ص: 165 ] أنه لا ذنب له في ذلك ، ولكنه مظنة كل شر وخبث ، وهو جدير أن لا يجيء منه خير أبدا ، لأنه مخلوق من نطفة خبيثة ، وإذا كان الجسد الذي تربى على الحرام ، النار أولى به ، فكيف بالجسد المخلوق من النطفة الحرام ؟

قالوا : والمفعول به شر من ولد الزنى ، وأخزى وأخبث وأوقح ، وهو جدير أن لا يوفق لخير ، وأن يحال بينه وبينه ، وكلما عمل خيرا قيض الله له ما يفسده عقوبة له ، وقل أن ترى من كان كذلك في صغره إلا وهو في كبره شر مما كان ، ولا يوفق لعلم نافع ، ولا عمل صالح ، ولا توبة نصوح .

والتحقيق في المسألة أن يقال : إن تاب المبتلى بهذا البلاء وأناب ، ورزق توبة نصوحا وعملا صالحا ، وكان في كبره خيرا منه في صغره ، وبدل سيئاته بحسنات ، وغسل عار ذلك عنه بأنواع الطاعات والقربات ، وغض بصره وحفظ فرجه عن المحرمات ، وصدق الله في معاملته ، فهذا مغفور له وهو من أهل الجنة ، فإن الله يغفر الذنوب جميعا ، وإذا كانت التوبة تمحو كل ذنب ، حتى الشرك بالله وقتل أنبيائه وأوليائه والسحر والكفر وغير ذلك ، فلا تقصر عن محو هذا الذنب ، وقد استقرت حكمة الله تعالى به عدلا وفضلا أن : التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك وقتل النفس والزنى ، أنه يبدل سيئاته حسنات ، وهذا حكم عام لكل تائب من ذنب .

وقد قال تعالى : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم [ سورة الزمر : 53 ] .

فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد ، ولكن هذا في حق التائبين خاصة .

وأما المفعول به إن كان في كبره شرا مما كان في صغره ؛ لم يوفق لتوبة نصوح ، ولا لعمل صالح ، ولا استدراك ما فات ، ولا أبدل السيئات بالحسنات ، فهذا بعيد أن يوفق عند الممات لخاتمة يدخل بها الجنة ، عقوبة له على عمله ، فإن الله سبحانه وتعالى يعاقب على السيئة بسيئة أخرى ، وتتضاعف عقوبة السيئات بعضها ببعض ، كما يثيب على الحسنة بحسنة أخرى .

إذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة ، عقوبة لهم على أعمالهم السيئة .

قال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي رحمه الله :

واعلم أن لسوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - أسبابا ، ولها طرق وأبواب ، أعظمها [ ص: 166 ] الانكباب على الدنيا ، والإعراض عن الأخرى ، والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل ، وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ، ونوع من المعصية ، وجانب من الإعراض ، ونصيب من الجرأة والإقدام ، فملك قلبه ، وسبى عقله وأطفأ نوره وأرسل عليه حجبه فلم تنفع فيه تذكرة ، ولا نجحت فيه موعظة ، فربما جاءه الموت على ذلك ، فسمع النداء من مكان بعيد ، فلم يتبين له المراد ، ولا علم ما أراد ، وإن كرر عليه الداعي وأعاد .

قال : ويروى أن بعض رجال الناصر نزل الموت به ، فجعل ابنه يقول : قل لا إله إلا الله ، فقال : الناصر مولاي ، فأعاد عليه القول ، فأعاد مثل ذلك ، ثم أصابته غشية ، فلما أفاق قال : الناصر مولاي ، وكان هذا دأبه كلما قيل له قل : لا إله إلا الله ، قال : الناصر مولاي ، ثم قال لابنه : يا فلان ، الناصر إنما يعرفك بسيفك ، والقتل القتل ، ثم مات .

قال عبد الحق : وقيل لآخر - ممن أعرفه - قل لا إله إلا الله . فجعل يقول : الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا ، والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا .

وقال : وفيما أذن أبو طاهر السلفي أن أحدث به عنه : أن رجلا نزل به الموت ، فقيل له : قل لا إله إلا الله ، فجعل يقول بالفارسية : ده يازده ده وازده ، تفسيره : عشر بأحد عشر .

وقيل لآخر : قل لا إله إلا الله ، فجعل يقول :


أين الطريق إلى حمام منجاب



قال : وهذا الكلام له قصة ، وذلك أن رجلا كان واقفا بإزاء داره ، وكان بابها يشبه باب هذا الحمام ، فمرت به جارية لها منظر ، فقالت : أين الطريق إلى حمام منجاب ؟ فقال : هذا حمام منجاب ، فدخلت الدار ودخل وراءها ، فلما رأت نفسها في داره وعلمت أنه قد خدعها ، أظهرت له البشرى والفرح باجتماعها معه ، وقالت له : يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقر به عيوننا ، فقال لها : الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين ، وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها ، فأخذ ما يصلح ورجع ، فوجدها قد خرجت وذهبت ، ولم تخنه في شيء ، فهام الرجل وأكثر الذكر لها ، وجعل يمشي في الطرق والأزقة ويقول :


يا رب قائلة يوما وقد تعبت     كيف الطريق إلى حمام منجاب ؟



فبينما هو يوما يقول ذلك ، إذا بجاريته أجابته من طاق :


هلا جعلت سريعا إذ ظفرت بها     حرزا على الدار أو قفلا على الباب



فازداد هيمانه واشتد ، ولم يزل على ذلك ، حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا .

[ ص: 167 ] ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح ، فلما أصبح قيل له : كل هذا خوفا من الذنوب ؟ فأخذ تبنة من الأرض ، وقال : الذنوب أهون من هذا ، وإنما أبكي من خوف سوء الخاتمة .

وهذا من أعظم الفقه : أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت ، فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى .

وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء أنه لما احتضر جعل يغمى عليه ثم يفيق ويقرأ : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون [ سورة الأنعام : 110 ] .

فمن هذا خاف السلف من الذنوب ، أن تكون حجابا بينهم وبين الخاتمة الحسنى .

قال : واعلم أن سوء الخاتمة - أعاذنا الله تعالى منها - لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ، ما سمع بهذا ولا علم به ولله الحمد ، وإنما تكون لمن له فساد في العقد ، أو إصرار على الكبائر ، وإقدام على العظائم ، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة ، فيأخذه قبل إصلاح الطوية ، ويصطلمه قبل الإنابة فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة ، ويختطفه عند تلك الدهشة ، والعياذ بالله .

قال : ويروى أنه كان بمصر رجل يلزم مسجدا للأذان والصلاة ، وعليه بهاء الطاعة وأنوار العبادة ، فرقي يوما المنارة على عادته للأذان ، وكان تحت المنارة دار لنصراني ، فاطلع فيها ، فرأى ابنة صاحب الدار فافتتن بها ، فترك الأذان ، ونزل إليها ، ودخل الدار عليها ، فقالت له : ما شأنك وما تريد ؟ قال : أريدك ، فقالت : لماذا ؟ قال : قد سبيت لبي ، وأخذت بمجامع قلبي ، قالت : لا أجيبك إلى ريبة أبدا ، وقال : أتزوجك ؟ قالت : أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك ، قال : أتنصر ، قالت : إن فعلت أفعل ، فتنصر الرجل ليتزوجها ، وأقام معهم في الدار ، فلما كان في أثناء ذلك اليوم ، رقي إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات ، فلم يظفر بها ، وفاته دينه .

قال : ويروى أن رجلا عشق شخصا فاشتد كلفه به ، وتمكن حبه من قلبه ، حتى وقع ألم به ولزم الفراش بسببه ، وتمنع ذلك الشخص عليه ، واشتد نفاره عنه ، فلم تزل الوسائط يمشون بينهما حتى وعده بأن يعوده ، فأخبره بذلك الناس ، ففرح واشتد سروره وانجلى غمه ، وجعل ينتظر الميعاد الذي ضرب له ، فبينا هو كذلك إذ جاءه الساعي بينهما ، فقال : إنه وصل معي إلى بعض الطريق ورجع ، ورغبت إليه وكلمته ، فقال : إنه ذكرني وصرح بي ، ولا أدخل مداخل الريبة ولا أعرض نفسي لمواقع التهم ، فعاودته فأبى وانصرف ، فلما سمع [ ص: 168 ] البائس أسقط في يده ، وعاد إلى أشد مما كان به ، وبدت عليه علائم ، فجعل يقول في تلك الحال :


يا سلم يا راحة العليل     ويا شفا المدنف النحيل
رضاك أشهى إلى فؤادي     من رحمة الخالق الجليل



فقلت له : يا فلان اتق الله ، قال : قد كان ، فقمت عنه ، فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت ، فعياذا بالله من سوء العاقبة ، وشؤم الخاتمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية