فصل من آثار المعاصي
[ ص: 52 ] nindex.php?page=treesubj&link=29556_29494وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة ، المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله .
فمنها :
nindex.php?page=treesubj&link=29494حرمان العلم ، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب ، والمعصية تطفئ ذلك النور .
ولما جلس الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي بين يدي
مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته ، وتوقد ذكائه ، وكمال فهمه ، فقال : إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا ، فلا تطفئه بظلمة المعصية .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال اعلم بأن العلم فضل
وفضل الله لا يؤتاه عاصي
ومنها :
nindex.php?page=treesubj&link=29494حرمان الرزق ، وفي المسند :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949417إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وقد تقدم ، وكما أن تقوى الله مجلبة للرزق فترك التقوى مجلبة للفقر ، فما استجلب رزق الله بمثل ترك المعاصي .
ومنها :
nindex.php?page=treesubj&link=29494وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله لا توازنها ولا تقارنها لذة أصلا ، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة ، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة ، وما لجرح بميت إيلام ، فلو لم تترك الذنوب إلا حذرا من وقوع تلك الوحشة ، لكان العاقل حريا بتركها .
وشكا رجل إلى بعض العارفين وحشة يجدها في نفسه فقال له :
إذا كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنس
وليس على القلب أمر من وحشة الذنب على الذنب ، فالله المستعان .
ومنها :
nindex.php?page=treesubj&link=29494الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس ، ولاسيما أهل الخير منهم ، فإنه يجد وحشة بينه وبينهم ، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم ومن مجالستهم ، وحرم بركة الانتفاع بهم ، وقرب من حزب الشيطان ، بقدر ما بعد من حزب الرحمن ، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم ، فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه ، وبينه وبين نفسه ، فتراه مستوحشا من نفسه .
[ ص: 53 ] وذكر أيضا عن
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع حدثنا
زكريا عن
عامر قال : كتبت
عائشة إلى
معاوية : أما بعد : فإن العبد إذا عمل بمعصية الله عد حامده من الناس ذاما .
ذكر
أبو نعيم عن
nindex.php?page=showalam&ids=15957سالم بن أبي الجعد عن
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء قال : ليحذر امرؤ أن تلعنه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر ، ثم قال : أتدري مم هذا ؟ قلت : لا ، قال : إن العبد يخلو بمعاصي الله فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر .
وذكر
عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه عن
nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين : أنه لما ركبه الدين اغتم لذلك ، فقال : إني لأعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة .
قد لا يؤثر الذنب في الحال
وهاهنا
nindex.php?page=treesubj&link=29494نكتة دقيقة يغلط فيها الناس في أمر الذنب ، وهي أنهم لا يرون تأثيره في الحال ، وقد يتأخر تأثيره فينسى ، ويظن العبد أنه لا يغبر بعد ذلك ، وأن الأمر كما قال القائل :
إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار
وسبحان الله ! ماذا أهلكت هذه النكتة من الخلق ؟ وكم أزالت غبار نعمة ؟ وكم جلبت من نقمة ؟ وما أكثر المغترين بها العلماء والفضلاء ، فضلا عن الجهال ، ولم يعلم المغتر أن الذنب ينقض ولو بعد حين ، كما ينقض السم ، وكما ينقض الجرح المندمل على الغش والدغل .
وقد ذكر الإمام
أحمد عن
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء : اعبدوا الله كأنكم ترونه ، وعدوا أنفسكم من الموتى ، واعلموا أن قليلا يغنيكم ، خير من كثير يلهيكم ، واعلموا أن البر لا يبلى ، وأن الإثم لا ينسى .
ونظر بعض العباد إلى صبي ، فتأمل محاسنه ، فأتي في منامه وقيل له : لتجدن غبها بعد أربعين سنة .
هذا مع أن
nindex.php?page=treesubj&link=29494للذنب نقدا معجلا لا يتأخر عنه ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16043سليمان التيمي : إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17335يحيى بن معاذ الرازي عجبت من ذي عقل يقول في دعائه : اللهم لا تشمت بي الأعداء ، ثم هو يشمت بنفسه كل عدو له ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال يعصي الله ويشمت به في القيامة كل عدو .
وقال
ذو النون : من خان الله في السر هتك الله ستره في العلانية .
[ ص: 54 ] وقال بعض السلف : إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي ، وامرأتي .
ومنها :
nindex.php?page=treesubj&link=29494تعسير أموره عليه ، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقا دونه أو متعسرا عليه ، وهذا كما أن من تلقى الله جعل له من أمره يسرا ، فمن عطل التقوى جعل له من أمره عسرا ، ويا لله العجب ! كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه وطرقها معسرة عليه ، وهو لا يعلم من أين أتي ؟
ومنها :
nindex.php?page=treesubj&link=29494ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهم ، فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=30487الطاعة نور ، والمعصية ظلمة ، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته ، حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر ، كأعمى أخرج في ظلمة الليل يمشي وحده ، وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين ، ثم تقوى حتى تعلو الوجه ، وتصير سوادا في الوجه حتى يراه كل أحد .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس : إن للحسنة ضياء في الوجه ، ونورا في القلب ، وسعة في الرزق ، وقوة في البدن ، ومحبة في قلوب الخلق ، وإن
nindex.php?page=treesubj&link=29494للسيئة سوادا في الوجه ، وظلمة في القبر والقلب ، ووهنا في البدن ، ونقصا في الرزق ، وبغضة في قلوب الخلق .
ومنها أن
nindex.php?page=treesubj&link=29494المعاصي توهن القلب والبدن ، أما وهنها للقلب فأمر ظاهر ، بل لا تزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية .
وأما وهنها للبدن فإن المؤمن قوته من قلبه ، وكلما قوي قلبه قوي بدنه ، وأما الفاجر فإنه - وإن كان قوي البدن - فهو أضعف شيء عند الحاجة ، فتخونه قوته عند أحوج ما يكون إلى نفسه فتأمل قوة أبدان فارس والروم ، كيف خانتهم ، أحوج ما كانوا إليها ، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم ؟
ومنها :
nindex.php?page=treesubj&link=29494حرمان الطاعة ، فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصد عن طاعة تكون بدله ، ويقطع طريق طاعة أخرى ، فينقطع عليه بالذنب طريق ثالثة ، ثم رابعة ، وهلم جرا ، فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة ، كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها ، وهذا كرجل أكل أكلة أوجبت له مرضة طويلة منعته من عدة أكلات أطيب منها ، والله المستعان .
طول العمر وقصره
ومنها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29494المعاصي تقصر العمر وتمحق بركته ولا بد ، فإن البر كما يزيد في العمر ، فالفجور يقصر العمر .
وقد اختلف الناس في هذا الموضع .
[ ص: 55 ] فقالت طائفة : نقصان عمر العاصي هو ذهاب بركة عمره ومحقها عليه ، وهذا حق ، وهو بعض تأثير المعاصي .
وقالت طائفة : بل تنقصه حقيقة ، كما تنقص الرزق ، فجعل الله سبحانه للبركة في الرزق أسبابا كثيرة تكثره وتزيده ، وللبركة في العمر أسبابا تكثره وتزيده .
قالوا ولا تمنع زيادة العمر بأسباب كما ينقص بأسباب ، فالأرزاق والآجال ، والسعادة والشقاوة ، والصحة والمرض ، والغنى والفقر ، وإن كانت بقضاء الرب عز وجل ، فهو يقضي ما يشاء بأسباب جعلها موجبة لمسبباتها مقتضية لها .
وقالت طائفة أخرى : تأثير المعاصي في محق العمر إنما هو بأن حقيقة الحياة هي حياة القلب ، ولهذا جعل الله سبحانه الكافر ميتا غير حي ، كما قال تعالى ،
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=21أموات غير أحياء [ سورة النحل : 21 ] .
فالحياة في الحقيقة حياة القلب ، وعمر الإنسان مدة حياته فليس عمره إلا أوقات حياته بالله ، فتلك ساعات عمره ، فالبر والتقوى والطاعة تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره ، ولا عمر له سواها .
وبالجملة ، فالعبد إذا أعرض عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية التي يجد غب إضاعتها يوم يقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=24ياليتني قدمت لحياتي [ سورة الفجر : 24 ] .
فلا يخلو إما أن يكون له مع ذلك تطلع إلى مصالحه الدنيوية والأخروية أو لا ، فإن لم يكن له تطلع إلى ذلك فقد ضاع عليه عمره كله ، وذهبت حياته باطلا ، وإن كان له تطلع إلى ذلك طالت عليه الطريق بسبب العوائق ، وتعسرت عليه أسباب الخير بحسب اشتغاله بأضدادها ، وذلك نقصان حقيقي من عمره .
وسر المسألة أن عمر الإنسان مدة حياته ولا حياة له إلا بإقباله على ربه ، والتنعم بحبه وذكره ، وإيثار مرضاته .
فَصْلٌ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي
[ ص: 52 ] nindex.php?page=treesubj&link=29556_29494وَلِلْمَعَاصِي مِنَ الْآثَارِ الْقَبِيحَةِ الْمَذْمُومَةِ ، الْمُضِرَّةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ .
فَمِنْهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=29494حِرْمَانُ الْعِلْمِ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ ، وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ ذَلِكَ النُّورَ .
وَلَمَّا جَلَسَ الْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ بَيْنَ يَدَيْ
مَالِكٍ وَقَرَأَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ وُفُورِ فِطْنَتِهِ ، وَتَوَقُّدِ ذَكَائِهِ ، وَكَمَالِ فَهْمِهِ ، فَقَالَ : إِنِّي أَرَى اللَّهَ قَدْ أَلْقَى عَلَى قَلْبِكَ نُورًا ، فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي فَأَرْشَدَنِي إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي وَقَالَ اعْلَمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ فَضْلٌ
وَفَضْلُ اللَّهِ لَا يُؤْتَاهُ عَاصِي
وَمِنْهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=29494حِرْمَانُ الرِّزْقِ ، وَفِي الْمُسْنَدِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949417إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَكَمَا أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ مَجْلَبَةٌ لِلرِّزْقِ فَتَرْكُ التَّقْوَى مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ ، فَمَا اسْتُجْلِبَ رِزْقُ اللَّهِ بِمِثْلِ تَرْكِ الْمَعَاصِي .
وَمِنْهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=29494وَحْشَةٌ يَجِدُهَا الْعَاصِي فِي قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لَا تُوَازِنُهَا وَلَا تُقَارِنُهَا لَذَّةٌ أَصْلًا ، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ لَهُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَمْ تَفِ بِتِلْكَ الْوَحْشَةِ ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحِسُّ بِهِ إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ ، وَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ ، فَلَوْ لَمْ تُتْرَكِ الذُّنُوبُ إِلَّا حَذَرًا مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ ، لَكَانَ الْعَاقِلُ حَرِيًّا بِتَرْكِهَا .
وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ وَحْشَةً يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ فَقَالَ لَهُ :
إِذَا كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ
وَلَيْسَ عَلَى الْقَلْبِ أَمَرُّ مِنْ وَحْشَةِ الذَّنْبِ عَلَى الذَّنْبِ ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَمِنْهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=29494الْوَحْشَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ ، وَلَاسِيَّمَا أَهْلُ الْخَيْرِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُ يَجِدُ وَحْشَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ تِلْكَ الْوَحْشَةُ بَعُدَ مِنْهُمْ وَمِنْ مُجَالَسَتِهِمْ ، وَحُرِمَ بَرَكَةَ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ ، وَقَرُبَ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ ، بِقَدْرِ مَا بَعُدَ مِنْ حِزْبِ الرَّحْمَنِ ، وَتَقْوَى هَذِهِ الْوَحْشَةُ حَتَّى تَسْتَحْكِمَ ، فَتَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ وَأَقَارِبِهِ ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ ، فَتَرَاهُ مُسْتَوْحِشًا مِنْ نَفْسِهِ .
[ ص: 53 ] وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17277وَكِيعٍ حَدَّثَنَا
زَكَرِيَّا عَنْ
عَامِرٍ قَالَ : كَتَبَتْ
عَائِشَةُ إِلَى
مُعَاوِيَةَ : أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ عَدَّ حَامِدَهُ مِنَ النَّاسِ ذَامًّا .
ذَكَرَ
أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=15957سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=4أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : لِيَحْذَرِ امْرُؤٌ أَنْ تَلْعَنَهُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ ، ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرِي مِمَّ هَذَا ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : إِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُو بِمَعَاصِي اللَّهِ فَيُلْقِي اللَّهُ بُغْضَهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ .
وَذَكَرَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِيهِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16972مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ : أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَهُ الدَّيْنُ اغْتَمَّ لِذَلِكَ ، فَقَالَ : إِنِّي لَأَعْرِفُ هَذَا الْغَمَّ بِذَنْبٍ أَصَبْتُهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
قَدْ لَا يُؤَثِّرُ الذَّنْبُ فِي الْحَالِ
وَهَاهُنَا
nindex.php?page=treesubj&link=29494نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ يَغْلَطُ فِيهَا النَّاسُ فِي أَمْرِ الذَّنْبِ ، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ تَأْثِيرَهُ فِي الْحَالِ ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ تَأْثِيرُهُ فَيُنْسَى ، وَيَظُنُّ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَا يُغَبِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :
إِذَا لَمْ يُغَبِّرْ حَائِطٌ فِي وُقُوعِهِ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ غُبَارُ
وَسُبْحَانَ اللَّهِ ! مَاذَا أَهْلَكَتْ هَذِهِ النُّكْتَةُ مِنَ الْخَلْقِ ؟ وَكَمْ أَزَالَتْ غُبَارَ نِعْمَةٍ ؟ وَكَمْ جَلَبَتْ مِنْ نِقْمَةٍ ؟ وَمَا أَكْثَرَ الْمُغْتَرِّينَ بِهَا الْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ ، فَضْلًا عَنِ الْجُهَّالِ ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُغْتَرُّ أَنَّ الذَّنْبَ يَنْقَضُّ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ، كَمَا يَنْقَضُّ السُّمُّ ، وَكَمَا يَنْقَضُّ الْجُرْحُ الْمُنْدَمِلُ عَلَى الْغِشِّ وَالدَّغَلِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=4أَبِي الدَّرْدَاءِ : اعْبُدُوا اللَّهَ كَأَنَّكُمْ تَرَوْنَهُ ، وَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَوْتَى ، وَاعْلَمُوا أَنَّ قَلِيلًا يُغْنِيكُمْ ، خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يُلْهِيكُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْبِرَّ لَا يَبْلَى ، وَأَنَّ الْإِثْمَ لَا يُنْسَى .
وَنَظَرَ بَعْضُ الْعُبَّادِ إِلَى صَبِيٍّ ، فَتَأَمَّلَ مَحَاسِنَهُ ، فَأُتِيَ فِي مَنَامِهِ وَقِيلَ لَهُ : لَتَجِدَنَّ غِبَّهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
هَذَا مَعَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29494لِلذَّنْبِ نَقْدًا مُعَجَّلًا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16043سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ الذَّنْبَ فِي السِّرِّ فَيُصْبِحُ وَعَلَيْهِ مَذَلَّتُهُ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=17335يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ عَجِبْتُ مِنْ ذِي عَقْلٍ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ ، ثُمَّ هُوَ يُشْمِتُ بِنَفْسِهِ كُلَّ عَدُوٍّ لَهُ ، قِيلَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ يَعْصِي اللَّهَ وَيَشْمَتُ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ كُلُّ عَدُوٍّ .
وَقَالَ
ذُو النُّونِ : مَنْ خَانَ اللَّهَ فِي السِّرِّ هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ .
[ ص: 54 ] وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ فَأَرَى ذَلِكَ فِي خُلُقِ دَابَّتِي ، وَامْرَأَتِي .
وَمِنْهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=29494تَعْسِيرُ أُمُورِهِ عَلَيْهِ ، فَلَا يَتَوَجَّهُ لِأَمْرٍ إِلَّا يَجِدُهُ مُغْلَقًا دُونَهُ أَوْ مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ تَلَقَّى اللَّهَ جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ، فَمَنْ عَطَّلَ التَّقْوَى جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ عُسْرًا ، وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ ! كَيْفَ يَجِدُ الْعَبْدُ أَبْوَابَ الْخَيْرِ وَالْمَصَالِحِ مَسْدُودَةً عَنْهُ وَطُرُقَهَا مُعَسَّرَةً عَلَيْهِ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أُتِيَ ؟
وَمِنْهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=29494ظُلْمَةٌ يَجِدُهَا فِي قَلْبِهِ حَقِيقَةً يَحِسُّ بِهَا كَمَا يَحِسُّ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ إِذَا ادْلَهَمَّ ، فَتَصِيرُ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ لِقَلْبِهِ كَالظُّلْمَةِ الْحِسِّيَّةِ لِبَصَرِهِ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30487الطَّاعَةَ نُورٌ ، وَالْمَعْصِيَةَ ظُلْمَةٌ ، وَكُلَّمَا قَوِيَتِ الظُّلْمَةُ ازْدَادَتْ حَيْرَتُهُ ، حَتَّى يَقَعَ فِي الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَالْأُمُورِ الْمُهْلِكَةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ، كَأَعْمَى أُخْرِجَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ يَمْشِي وَحْدَهُ ، وَتَقْوَى هَذِهِ الظُّلْمَةُ حَتَّى تَظْهَرَ فِي الْعَيْنِ ، ثُمَّ تَقْوَى حَتَّى تَعْلُوَ الْوَجْهَ ، وَتَصِيرُ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ حَتَّى يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ لِلْحَسَنَةِ ضِيَاءً فِي الْوَجْهِ ، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ ، وَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29494لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ ، وَظُلْمَةً فِي الْقَبْرِ وَالْقَلْبِ ، وَوَهْنًا فِي الْبَدَنِ ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ ، وَبُغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ .
وَمِنْهَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29494الْمَعَاصِيَ تُوهِنُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ ، أَمَّا وَهْنُهَا لِلْقَلْبِ فَأَمْرٌ ظَاهِرٌ ، بَلْ لَا تَزَالُ تُوهِنُهُ حَتَّى تُزِيلَ حَيَاتَهُ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَأَمَّا وَهْنُهَا لِلْبَدَنِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ مِنْ قَلْبِهِ ، وَكُلَّمَا قَوِيَ قَلْبُهُ قَوِيَ بَدَنُهُ ، وَأَمَّا الْفَاجِرُ فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ - فَهُوَ أَضْعَفُ شَيْءٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، فَتَخُونُهُ قُوَّتُهُ عِنْدَ أَحْوَجِ مَا يَكُونُ إِلَى نَفْسِهِ فَتَأَمَّلْ قُوَّةَ أَبْدَانِ فَارِسَ وَالرُّومِ ، كَيْفَ خَانَتْهُمْ ، أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا ، وَقَهَرَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِقُوَّةِ أَبْدَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ ؟
وَمِنْهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=29494حِرْمَانُ الطَّاعَةِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلذَّنْبِ عُقُوبَةٌ إِلَّا أَنْ يَصُدَّ عَنْ طَاعَةٍ تَكُونُ بَدَلَهُ ، وَيَقْطَعَ طَرِيقَ طَاعَةٍ أُخْرَى ، فَيَنْقَطِعَ عَلَيْهِ بِالذَّنْبِ طَرِيقٌ ثَالِثَةٌ ، ثُمَّ رَابِعَةٌ ، وَهَلُمَّ جَرًّا ، فَيَنْقَطِعُ عَلَيْهِ بِالذَّنْبِ طَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا ، وَهَذَا كَرَجُلٍ أَكَلَ أَكْلَةً أَوْجَبَتْ لَهُ مِرْضَةً طَوِيلَةً مَنَعَتْهُ مِنْ عِدَّةِ أَكَلَاتِ أَطْيَبَ مِنْهَا ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
طُولُ الْعُمُرِ وَقِصَرُهُ
وَمِنْهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29494الْمَعَاصِيَ تُقَصِّرُ الْعُمُرَ وَتَمْحَقُ بَرَكَتَهُ وَلَا بُدَّ ، فَإِنَّ الْبِرَّ كَمَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ ، فَالْفُجُورُ يُقَصِّرُ الْعُمُرَ .
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
[ ص: 55 ] فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : نُقْصَانُ عُمُرِ الْعَاصِي هُوَ ذَهَابُ بَرَكَةِ عُمُرِهِ وَمَحْقُهَا عَلَيْهِ ، وَهَذَا حَقٌّ ، وَهُوَ بَعْضُ تَأْثِيرِ الْمَعَاصِي .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : بَلْ تُنْقِصُهُ حَقِيقَةً ، كَمَا تُنْقِصُ الرِّزْقَ ، فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْبَرَكَةِ فِي الرِّزْقِ أَسْبَابًا كَثِيرَةً تُكَثِّرُهُ وَتَزِيدُهُ ، وَلِلْبَرَكَةِ فِي الْعُمُرِ أَسْبَابًا تُكَثِّرُهُ وَتَزِيدُهُ .
قَالُوا وَلَا تُمْنَعُ زِيَادَةُ الْعُمُرِ بِأَسْبَابٍ كَمَا يُنْقَصُ بِأَسْبَابٍ ، فَالْأَرْزَاقُ وَالْآجَالُ ، وَالسَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ ، وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرُ ، وَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ ، فَهُوَ يَقْضِي مَا يَشَاءُ بِأَسْبَابٍ جَعَلَهَا مُوجِبَةً لِمُسَبَّبَاتِهَا مُقْتَضِيَةً لَهَا .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : تَأْثِيرُ الْمَعَاصِي فِي مَحْقِ الْعُمُرِ إِنَّمَا هُوَ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَيَاةِ هِيَ حَيَاةُ الْقَلْبِ ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَافِرَ مَيِّتًا غَيْرَ حَيٍّ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ،
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=21أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [ سُورَةُ النَّحْلِ : 21 ] .
فَالْحَيَاةُ فِي الْحَقِيقَةِ حَيَاةُ الْقَلْبِ ، وَعُمُرُ الْإِنْسَانِ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ فَلَيْسَ عُمُرُهُ إِلَّا أَوْقَاتَ حَيَاتِهِ بِاللَّهِ ، فَتِلْكَ سَاعَاتُ عُمُرِهِ ، فَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالطَّاعَةُ تَزِيدُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ عُمُرِهِ ، وَلَا عُمُرَ لَهُ سِوَاهَا .
وَبِالْجُمْلَةِ ، فَالْعَبْدُ إِذَا أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ وَاشْتَغَلَ بِالْمَعَاصِي ضَاعَتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ حَيَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يَجِدُ غِبَّ إِضَاعَتِهَا يَوْمَ يَقُولُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=24يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [ سُورَةُ الْفَجْرِ : 24 ] .
فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ تَطَلُّعٌ إِلَى مَصَالِحِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَطَلُّعٌ إِلَى ذَلِكَ فَقَدْ ضَاعَ عَلَيْهِ عُمُرُهُ كُلُّهُ ، وَذَهَبَتْ حَيَاتُهُ بَاطِلًا ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَلُّعٌ إِلَى ذَلِكَ طَالَتْ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ بِسَبَبِ الْعَوَائِقِ ، وَتَعَسَّرَتْ عَلَيْهِ أَسْبَابُ الْخَيْرِ بِحَسْبِ اشْتِغَالِهِ بِأَضْدَادِهَا ، وَذَلِكَ نُقْصَانٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ عُمُرِهِ .
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عُمُرَ الْإِنْسَانِ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ وَلَا حَيَاةَ لَهُ إِلَّا بِإِقْبَالِهِ عَلَى رَبِّهِ ، وَالتَّنَعُّمِ بِحُبِّهِ وَذِكْرِهِ ، وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ .