فصل
المعاصي عدو لدود
nindex.php?page=treesubj&link=29494_28798ومن عقوباتها : أنها مدد من الإنسان يمد به عدوه عليه ، وجيش يقويه به على حربه ، وذلك أن الله سبحانه ابتلى هذا الإنسان بعدو لا يفارقه طرفة عين ، ولا ينام منه ولا يغفل عنه ، يراه هو وقبيله من حيث لا يراه ، يبذل جهده في معاداته في كل حال ، ولا يدع أمرا يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله إليه ، ويستعين عليه ببني جنسه من شياطين الجن ، وغيرهم من شياطين الإنس ، فقد نصب له الحبائل ، وبغى له الغوائل ، ومد حوله الأشراك ، ونصب له الفخاخ والشباك ، وقال لأعوانه : دونكم عدوكم وعدو أبيكم لا يفوتكم ولا يكون حظه الجنة وحظكم النار ، ونصيبه الرحمة ونصيبكم اللعنة ، وقد علمتم أن ما جرى علي وعليكم من الخزي والإبعاد من رحمة الله بسببه ومن أجله ، فابذلوا جهدكم أن يكونوا شركاءنا في هذه البلية ، إذ قد فاتنا شركة صالحيهم في الجنة . وقد أعلمنا الله سبحانه بذلك كله من عدونا وأمرنا أن نأخذ له أهبته ونعد له عدته .
ولما علم سبحانه أن آدم وبنيه قد بلوا بهذا العدو وأنه قد سلط عليهم أمدهم بعساكر وجند يلقونهم بها ، وأمد عدوهم أيضا بجند وعساكر يلقاهم بها ،
nindex.php?page=treesubj&link=28799وأقام سوق الجهاد في هذه الدار في مدة العمر التي هي بالإضافة إلى الآخرة كنفس واحد من أنفاسها ، واشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ، وأخبر أن
[ ص: 96 ] ذلك وعد مؤكد عليه في أشرف كتبه ، وهي التوراة والإنجيل والقرآن ، وأخبر أنه لا أوفى بعهده منه سبحانه ، ثم أمرهم أن يستبشروا بهذه الصفقة التي من أراد أن يعرف قدرها فلينظر إلى المشتري من هو ؟ وإلى الثمن المبذول في هذه السلعة ، وإلى من جرى على يديه هذا العقد ، فأي فوز أعظم من هذا ؟ وأي تجارة أربح منه ؟
ثم أكد سبحانه معهم هذا الأمر بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=10ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=11تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=12يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=13وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين [ سورة الصف : 10 - 13 ] .
ولم يسلط سبحانه هذا العدو على عبده المؤمن الذي هو أحب المخلوقات إليه ، إلا لأن الجهاد أحب شيء إليه ، وأهله أرفع الخلق عنده درجات ، وأقربهم إليه وسيلة ، فعقد سبحانه لواء هذه الحرب لخلاصة مخلوقاته ، وهو القلب الذي محل معرفته ومحبته ، وعبوديته والإخلاص له ، والتوكل عليه والإنابة إليه ، فولاه أمر هذه الحرب ، وأيده بجند من الملائكة لا يفارقونه
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=11له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [ سورة الرعد : 11 ] .
يعقب بعضهم بعضا ، كلما ذهب بدل جاء بدل آخر يثبتونه ويأمرونه بالخير ويحضونه عليه ، ويعدونه بكرامة الله ويصبرونه ، ويقولون : إنما هو صبر ساعة وقد استرحت راحة الأبد .
ثم أمده سبحانه بجند آخر من وحيه وكلامه ، فأرسل إليه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل إليه كتابه ، فازداد قوة إلى قوته ، ومددا إلى مدده ، وعدة إلى عدته ، وأمده مع ذلك بالعقل وزيرا له ومدبرا ، وبالمعرفة مشيرة عليه ناصحة له ، وبالإيمان مثبتا له ومؤيدا وناصرا ، وباليقين كاشفا له عن حقيقة الأمر ، حتى كأنه يعاين ما وعد الله تعالى أولياءه وحزبه على جهاد أعدائه ، فالعقل يدبر أمر جيشه ، والمعرفة تصنع له أمور الحرب وأسبابها ومواضعها اللائقة بها ، والإيمان يثبته ويقويه ويصبره ، واليقين يقدم به ويحمل به الحملات الصادقة .
ثم أمد سبحانه القائم بهذه الحرب بالقوى الظاهرة والباطنة ، فجعل العين طليعته ، والأذن صاحب خبره ، واللسان ترجمانه ، واليدين والرجلين أعوانه ، وأقام ملائكته وحملة عرشه يستغفرون له ويسألون له أن يقيه السيئات ويدخله الجنات ، وتولى سبحانه الدفع
[ ص: 97 ] والدفاع عنه بنفسه وقال : هؤلاء حزبي ، وحزب الله هم المفلحون ، قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=22أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون [ المجادلة : 22 ] .
وهؤلاء جندي
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=173وإن جندنا لهم الغالبون [ سورة الصافات : 173 ] .
وعلم عباده كيفية هذه الحرب والجهاد ، فجمعها لهم في أربع كلمات فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون [ سورة آل عمران : 200 ] .
ولا يتم أمر هذا
nindex.php?page=treesubj&link=26005_8141_24334_33386_32496الجهاد إلا بهذه الأمور الأربعة ، فلا يتم الصبر إلا بمصابرة العدو ، وهو مقاومته ومنازلته ، فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمر آخر وهي المرابطة ، وهي لزوم ثغر القلب وحراسته لئلا يدخل منه العدو ، ولزوم ثغر العين والأذن واللسان والبطن واليد والرجل ، فهذه الثغور يدخل منها العدو فيجوس خلال الديار ويفسد ما قدر عليه ، فالمرابطة لزوم هذه الثغور ، ولا يخلي مكانها فيصادف العدو الثغر خاليا فيدخل منه .
فهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير الخلق بعد النبيين والمرسلين ، وأعظمهم حماية وحراسة من الشيطان ، وقد أخلوا المكان الذي أمروا بلزومه يوم أحد ، فدخل منه العدو ، فكان ما كان .
وجماع هذه الثلاثة وعمودها الذي تقوم به هو تقوى الله تعالى ، فلا ينفع الصبر ولا المصابرة ولا المرابطة إلا بالتقوى ، ولا تقوم التقوى إلا على ساق الصبر .
التقاء الجيشين فانظر الآن فيك إلى التقاء الجيشين ، واصطدام العسكرين وكيف تدال مرة ، ويدال عليك أخرى ؟ أقبل ملك الكفرة بجنوده وعساكره ، فوجد القلب في حصنه جالسا على كرسي مملكته ، أمره نافذ في أعوانه ، وجنده قد حفوا به ، يقاتلون عنه ويدافعون عن حوزته ، فلم يمكنهم الهجوم عليه إلا بمخامرة بعض أمرائه وجنده عليه ، فسأل عن
nindex.php?page=treesubj&link=28798أخص الجند به وأقربهم منه منزلة ، فقيل له : هي النفس ، فقال لأعوانه : ادخلوا عليها من مرادها ، وانظروا مواقع محبتها وما هو محبوبها فعدوها به ومنوها إياه وانقشوا صورة المحبوب فيها في يقظتها ومنامها ، فإذا اطمأنت إليه وسكنت عنده فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة وخطاطيفها ، ثم جروها بها إليكم ، فإذا خامرت على القلب وصارت معكم عليه ملكتم ثغر العين والأذن
[ ص: 98 ] واللسان والفم واليد والرجل ، فرابطوا على هذا الثغور كل المرابطة ، فمتى دخلتم منها إلى القلب فهو قتيل أو أسير ، أو جريح مثخن بالجراحات ، ولا تخلوا هذه الثغور ، ولا تمكنوا سرية تدخل فيها إلى القلب فتخرجكم منها ، وإن غلبتم فاجتهدوا في إضعاف السرية ووهنها ، حتى لا تصل إلى القلب ، فإن وصلت إليه وصلت ضعيفة لا تغني عنه شيئا .
ثغر العين فإذا استوليتم على هذه الثغور فامنعوا
nindex.php?page=treesubj&link=27141_30464ثغر العين أن يكون نظره اعتبارا ، بل اجعلوا نظره تفرجا واستحسانا وتلهيا ، فإن استرق نظره عبرة فأفسدوها عليه بنظر الغفلة والاستحسان والشهوة ، فإنه أقرب إليه وأعلق بنفسه وأخف عليه ، ودونكم ثغر العين ، فإن منه تنالون بغيتكم ، فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر ، فإني أبذر به في القلب بذر الشهوة ، ثم أسقيه بماء الأمنية ، ثم لا أزال أعده وأمنيه حتى أقوي عزيمته وأقوده بزمام الشهوة إلى الانخلاع من العصمة ، فلا تهملوا أمر هذا الثغر وأفسدوه بحسب استطاعتكم ، وهونوا عليه أمره ، وقولوا له : مقدار نظرة تدعوك إلى تسبيح الخالق والتأمل لبديع صنيعه ، وحسن هذه الصورة التي إنما خلقت ليستدل بها الناظر عليه ، وما خلق الله لك العينين سدى ، وما خلق الله هذه الصورة ليحجبها عن النظر ، وإن ظفرتم به قليل العلم فاسد العقل ، فقولوا له : هذه الصورة مظهر من مظاهر الحق ومجلى من مجاليه ، فادعوه إلى القول بالاتحاد ، فإن لم يقبل فالقول بالحلول العام أو الخاص ، ولا تقنعوا منه بدون ذلك ، فإنه يصير به من إخوان
النصارى ، فمروه حينئذ بالعفة والصيانة والعبادة والزهد في الدنيا ، واصطادوا عليه وبه الجهال ، فهذا من أقرب خلفائي وأكبر جندي ، بل أنا من جنده وأعوانه .
فَصْلٌ
الْمَعَاصِي عَدُوٌّ لَدُودٌ
nindex.php?page=treesubj&link=29494_28798وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا مَدَدٌ مِنَ الْإِنْسَانِ يَمُدُّ بِهِ عَدُوَّهُ عَلَيْهِ ، وَجَيْشٌ يُقَوِّيهِ بِهِ عَلَى حَرْبِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ابْتَلَى هَذَا الْإِنْسَانَ بِعَدُوٍّ لَا يُفَارِقُهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وَلَا يَنَامُ مِنْهُ وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ ، يَرَاهُ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ ، يَبْذُلُ جَهْدَهُ فِي مُعَادَاتِهِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَلَا يَدَعُ أَمْرًا يَكِيدُهُ بِهِ يَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِهِ إِلَيْهِ إِلَّا أَوْصَلَهُ إِلَيْهِ ، وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِبَنِي جِنْسِهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ ، فَقَدْ نَصَبَ لَهُ الْحَبَائِلَ ، وَبَغَى لَهُ الْغَوَائِلَ ، وَمَدَّ حَوْلَهُ الْأَشْرَاكَ ، وَنَصَبَ لَهُ الْفِخَاخَ وَالشِّبَاكَ ، وَقَالَ لِأَعْوَانِهِ : دُونَكُمْ عَدُوَّكُمْ وَعَدُوَّ أَبِيكُمْ لَا يَفُوتُكُمْ وَلَا يَكُونُ حَظُّهُ الْجَنَّةَ وَحَظُّكُمُ النَّارَ ، وَنَصِيبُهُ الرَّحْمَةَ وَنَصِيبُكُمُ اللَّعْنَةَ ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَا جَرَى عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِسَبَبِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ ، فَابْذُلُوا جَهْدَكُمْ أَنْ يَكُونُوا شُرَكَاءَنَا فِي هَذِهِ الْبَلِيَّةِ ، إِذْ قَدْ فَاتَنَا شَرِكَةَ صَالِحِيهِمْ فِي الْجَنَّةِ . وَقَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ عَدُوِّنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نَأْخُذَ لَهُ أُهْبَتَهُ وَنُعِدَّ لَهُ عُدَّتَهُ .
وَلَمَّا عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ آدَمَ وَبَنِيهِ قَدْ بُلُوا بِهَذَا الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ قَدْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ أَمَدَهُمْ بِعَسَاكِرَ وَجُنْدٍ يَلْقَوْنَهُمْ بِهَا ، وَأَمَدَّ عَدُوَّهُمْ أَيْضًا بِجُنْدٍ وَعَسَاكِرَ يَلْقَاهُمْ بِهَا ،
nindex.php?page=treesubj&link=28799وَأَقَامَ سُوقَ الْجِهَادِ فِي هَذِهِ الدَّارِ فِي مُدَّةِ الْعُمُرِ الَّتِي هِيَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْآخِرَةِ كَنَفَسٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْفَاسِهَا ، وَاشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ
[ ص: 96 ] ذَلِكَ وَعْدٌ مُؤَكَّدٌ عَلَيْهِ فِي أَشْرَفِ كُتُبِهِ ، وَهِيَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَبْشِرُوا بِهَذِهِ الصَّفْقَةِ الَّتِي مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَهَا فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْمُشْتَرِي مَنْ هُوَ ؟ وَإِلَى الثَّمَنِ الْمَبْذُولِ فِي هَذِهِ السِّلْعَةِ ، وَإِلَى مَنْ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ هَذَا الْعَقْدُ ، فَأَيُّ فَوْزٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا ؟ وَأَيُّ تِجَارَةٍ أَرْبَحُ مِنْهُ ؟
ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ هَذَا الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=10يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=11تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=12يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=13وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [ سُورَةُ الصَّفِّ : 10 - 13 ] .
وَلَمْ يُسَلِّطْ سُبْحَانَهُ هَذَا الْعَدُوَّ عَلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَيْهِ ، إِلَّا لِأَنَّ الْجِهَادَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ ، وَأَهْلَهُ أَرْفَعُ الْخَلْقِ عِنْدَهُ دَرَجَاتٍ ، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ وَسِيلَةً ، فَعَقَدَ سُبْحَانَهُ لِوَاءَ هَذِهِ الْحَرْبِ لِخُلَاصَةِ مَخْلُوقَاتِهِ ، وَهُوَ الْقَلْبُ الَّذِي مَحَلُّ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ ، وَعُبُودِيَّتِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ ، فَوَلَّاهُ أَمْرَ هَذِهِ الْحَرْبِ ، وَأَيَّدَهُ بِجُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يُفَارِقُونَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=11لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [ سُورَةُ الرَّعْدِ : 11 ] .
يَعْقُبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، كُلَّمَا ذَهَبَ بَدَلٌ جَاءَ بَدَلٌ آخَرُ يُثَبِّتُونَهُ وَيَأْمُرُونَهُ بِالْخَيْرِ وَيَحُضُّونَهُ عَلَيْهِ ، وَيَعِدُونَهُ بِكَرَامَةِ اللَّهِ وَيُصَبِّرُونَهُ ، وَيَقُولُونَ : إِنَّمَا هُوَ صَبْرُ سَاعَةٍ وَقَدِ اسْتَرَحْتَ رَاحَةَ الْأَبَدِ .
ثُمَّ أَمَدَّهُ سُبْحَانَهُ بِجُنْدٍ آخَرَ مِنْ وَحْيِهِ وَكَلَامِهِ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ كِتَابَهُ ، فَازْدَادَ قُوَّةً إِلَى قُوتِهِ ، وَمَدَدًا إِلَى مَدَدِهِ ، وَعُدَّةً إِلَى عُدَّتِهِ ، وَأَمَدَّهُ مَعَ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ وَزِيرًا لَهُ وَمُدَبِّرًا ، وَبِالْمَعْرِفَةِ مُشِيرَةً عَلَيْهِ نَاصِحَةً لَهُ ، وَبِالْإِيمَانِ مُثَبِّتًا لَهُ وَمُؤَيِّدًا وَنَاصِرًا ، وَبِالْيَقِينِ كَاشِفًا لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ ، حَتَّى كَأَنَّهُ يُعَايِنُ مَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَهُ وَحِزْبَهُ عَلَى جِهَادِ أَعْدَائِهِ ، فَالْعَقْلُ يُدَبِّرُ أَمْرَ جَيْشِهِ ، وَالْمَعْرِفَةُ تَصْنَعُ لَهُ أُمُورَ الْحَرْبِ وَأَسْبَابَهَا وَمَوَاضِعَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا ، وَالْإِيمَانُ يُثَبِّتُهُ وَيُقَوِّيهِ وَيُصَبِّرُهُ ، وَالْيَقِينُ يُقْدِمُ بِهِ وَيَحْمِلُ بِهِ الْحَمَلَاتِ الصَّادِقَةَ .
ثُمَّ أَمَدَّ سُبْحَانَهُ الْقَائِمَ بِهَذِهِ الْحَرْبِ بِالْقُوَى الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ، فَجَعَلَ الْعَيْنَ طَلِيعَتَهُ ، وَالْأُذُنَ صَاحِبَ خَبَرِهِ ، وَاللِّسَانَ تُرْجُمَانَهُ ، وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَعْوَانَهُ ، وَأَقَامَ مَلَائِكَتَهُ وَحَمَلَةَ عَرْشِهِ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَيَسْأَلُونَ لَهُ أَنْ يَقِيَهُ السَّيِّئَاتِ وَيُدْخِلَهُ الْجَنَّاتِ ، وَتَوَلَّى سُبْحَانَهُ الدَّفْعَ
[ ص: 97 ] وَالدِّفَاعَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ وَقَالَ : هَؤُلَاءِ حِزْبِي ، وَحِزْبُ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=22أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ الْمُجَادَلَةِ : 22 ] .
وَهَؤُلَاءِ جُنْدِي
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=173وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [ سُورَةُ الصَّافَّاتِ : 173 ] .
وَعَلَّمَ عِبَادَهُ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الْحَرْبِ وَالْجِهَادِ ، فَجَمَعَهَا لَهُمْ فِي أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 200 ] .
وَلَا يَتِمُّ أَمْرُ هَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=26005_8141_24334_33386_32496الْجِهَادِ إِلَّا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ ، فَلَا يَتِمُّ الصَّبْرُ إِلَّا بِمُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ ، وَهُوَ مُقَاوَمَتُهُ وَمُنَازَلَتُهُ ، فَإِذَا صَابَرَ عَدُوَّهُ احْتَاجَ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ وَهِيَ الْمُرَابَطَةُ ، وَهِيَ لُزُومُ ثَغْرِ الْقَلْبِ وَحِرَاسَتُهُ لِئَلَّا يَدْخُلَ مِنْهُ الْعَدُوُّ ، وَلُزُومُ ثَغْرِ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ وَاللِّسَانِ وَالْبَطْنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، فَهَذِهِ الثُّغُورُ يَدْخُلُ مِنْهَا الْعَدُوُّ فَيَجُوسُ خِلَالَ الدِّيَارِ وَيُفْسِدُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ ، فَالْمُرَابَطَةُ لُزُومُ هَذِهِ الثُّغُورِ ، وَلَا يُخَلِّي مَكَانَهَا فَيُصَادِفَ الْعَدُوُّ الثَّغْرَ خَالِيًا فَيَدْخُلَ مِنْهُ .
فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ ، وَأَعْظَمُهُمْ حِمَايَةً وَحِرَاسَةً مِنَ الشَّيْطَانِ ، وَقَدْ أَخْلَوُا الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرُوا بِلُزُومِهِ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَدَخَلَ مِنْهُ الْعَدُوُّ ، فَكَانَ مَا كَانَ .
وَجِمَاعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَعَمُودُهَا الَّذِي تَقُومُ بِهِ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يَنْفَعُ الصَّبْرُ وَلَا الْمُصَابَرَةُ وَلَا الْمُرَابَطَةُ إِلَّا بِالتَّقْوَى ، وَلَا تَقُومُ التَّقْوَى إِلَّا عَلَى سَاقِ الصَّبْرِ .
الْتِقَاءُ الْجَيْشَيْنِ فَانْظُرِ الْآنَ فِيكَ إِلَى الْتِقَاءِ الْجَيْشَيْنِ ، وَاصْطِدَامِ الْعَسْكَرَيْنِ وَكَيْفَ تُدَالُ مَرَّةً ، وَيُدَالُ عَلَيْكَ أُخْرَى ؟ أَقْبَلَ مَلِكُ الْكَفَرَةِ بِجُنُودِهِ وَعَسَاكِرِهِ ، فَوَجَدَ الْقَلْبَ فِي حِصْنِهِ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِّ مَمْلَكَتِهِ ، أَمْرُهُ نَافِذٌ فِي أَعْوَانِهِ ، وَجُنْدُهُ قَدْ حَفُّوا بِهِ ، يُقَاتِلُونَ عَنْهُ وَيُدَافِعُونَ عَنْ حَوْزَتِهِ ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْهُجُومُ عَلَيْهِ إِلَّا بِمُخَامَرَةِ بَعْضِ أُمَرَائِهِ وَجُنْدِهِ عَلَيْهِ ، فَسَأَلَ عَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28798أَخَصِّ الْجُنْدِ بِهِ وَأَقْرَبِهِمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً ، فَقِيلَ لَهُ : هِيَ النَّفْسُ ، فَقَالَ لِأَعْوَانِهِ : ادْخُلُوا عَلَيْهَا مِنْ مُرَادِهَا ، وَانْظُرُوا مَوَاقِعَ مَحَبَّتِهَا وَمَا هُوَ مَحْبُوبُهَا فَعِدُوهَا بِهِ وَمَنُّوهَا إِيَّاهُ وَانْقُشُوا صُورَةَ الْمَحْبُوبِ فِيهَا فِي يَقَظَتِهَا وَمَنَامِهَا ، فَإِذَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ وَسَكَنَتْ عِنْدَهُ فَاطْرَحُوا عَلَيْهَا كَلَالِيبَ الشَّهْوَةِ وَخَطَاطِيفَهَا ، ثُمَّ جُرُّوهَا بِهَا إِلَيْكُمْ ، فَإِذَا خَامَرَتْ عَلَى الْقَلْبِ وَصَارَتْ مَعَكُمْ عَلَيْهِ مَلَكْتُمْ ثَغْرَ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ
[ ص: 98 ] وَاللِّسَانِ وَالْفَمِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، فَرَابِطُوا عَلَى هَذَا الثُّغُورِ كُلَّ الْمُرَابَطَةِ ، فَمَتَى دَخَلْتُمْ مِنْهَا إِلَى الْقَلْبِ فَهُوَ قَتِيلٌ أَوْ أَسِيرٌ ، أَوْ جَرِيحٌ مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحَاتِ ، وَلَا تُخْلُوا هَذِهِ الثُّغُورَ ، وَلَا تُمَكِّنُوا سَرِيَّةً تَدْخُلُ فِيهَا إِلَى الْقَلْبِ فَتُخْرِجَكُمْ مِنْهَا ، وَإِنْ غُلِبْتُمْ فَاجْتَهِدُوا فِي إِضْعَافِ السَّرِيَّةِ وَوَهَنِهَا ، حَتَّى لَا تَصِلَ إِلَى الْقَلْبِ ، فَإِنْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ وَصَلَتْ ضَعِيفَةً لَا تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا .
ثَغْرُ الْعَيْنِ فَإِذَا اسْتَوْلَيْتُمْ عَلَى هَذِهِ الثُّغُورِ فَامْنَعُوا
nindex.php?page=treesubj&link=27141_30464ثَغْرَ الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ اعْتِبَارًا ، بَلِ اجْعَلُوا نَظَرَهُ تَفَرُّجًا وَاسْتِحْسَانًا وَتَلَهِّيًا ، فَإِنِ اسْتَرَقَ نَظَرُهُ عِبْرَةً فَأَفْسِدُوهَا عَلَيْهِ بِنَظَرِ الْغَفْلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَالشَّهْوَةِ ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَأَعْلَقُ بِنَفْسِهِ وَأَخَفُّ عَلَيْهِ ، وَدُونَكُمْ ثَغْرَ الْعَيْنِ ، فَإِنَّ مِنْهُ تَنَالُونَ بُغْيَتَكُمْ ، فَإِنِّي مَا أَفْسَدْتُ بَنِي آدَمَ بِشَيْءٍ مِثْلِ النَّظَرِ ، فَإِنِّي أَبْذُرُ بِهِ فِي الْقَلْبِ بَذْرَ الشَّهْوَةِ ، ثُمَّ أَسْقِيهِ بِمَاءِ الْأُمْنِيَّةِ ، ثُمَّ لَا أَزَالُ أَعِدُهُ وَأُمَنِّيهِ حَتَّى أُقَوِّيَ عَزِيمَتَهُ وَأَقُودَهُ بِزِمَامِ الشَّهْوَةِ إِلَى الِانْخِلَاعِ مِنَ الْعِصْمَةِ ، فَلَا تُهْمِلُوا أَمْرَ هَذَا الثَّغْرِ وَأَفْسِدُوهُ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِكُمْ ، وَهَوِّنُوا عَلَيْهِ أَمْرَهُ ، وَقُولُوا لَهُ : مِقْدَارُ نَظْرَةٍ تَدْعُوكَ إِلَى تَسْبِيحِ الْخَالِقِ وَالتَّأَمُّلِ لِبَدِيعِ صَنِيعِهِ ، وَحُسْنِ هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي إِنَّمَا خُلِقَتْ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا النَّاظِرُ عَلَيْهِ ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ لَكَ الْعَيْنَيْنِ سُدًى ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ الصُّورَةَ لِيَحْجُبَهَا عَنِ النَّظَرِ ، وَإِنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ قَلِيلَ الْعِلْمِ فَاسِدَ الْعَقْلِ ، فَقُولُوا لَهُ : هَذِهِ الصُّورَةُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْحَقِّ وَمَجْلًى مِنْ مَجَالِيهِ ، فَادْعُوهُ إِلَى الْقَوْلِ بِالِاتِّحَادِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَالْقَوْلُ بِالْحُلُولِ الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ ، وَلَا تَقْنَعُوا مِنْهُ بِدُونِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مِنْ إِخْوَانِ
النَّصَارَى ، فَمُرُوهُ حِينَئِذٍ بِالْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ، وَاصْطَادُوا عَلَيْهِ وَبِهِ الْجُهَّالَ ، فَهَذَا مِنْ أَقْرَبِ خُلَفَائِي وَأَكْبَرِ جُنْدِي ، بَلْ أَنَا مِنْ جُنْدِهِ وَأَعْوَانِهِ .