فصل
nindex.php?page=treesubj&link=19733_19734الدعاء والقدر
[ ص: 16 ] وهاهنا سؤال مشهور وهو :
أن المدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه ، دعا به العبد أو لم يدع ، وإن لم يكن قد قدر لم يقع ، سواء سأله العبد أو لم يسأله .
فظنت طائفة صحة هذا السؤال ، فتركت الدعاء وقالت : لا فائدة فيه ، وهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم ، متناقضون فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب فيقال لأحدهم :
إن كان الشبع والري قد قدرا لك فلابد من وقوعهما ، أكلت أو لم تأكل ، وإن لم يقدرا لم يقعا أكلت أو لم تأكل .
وإن كان الولد قدر لك فلابد منه ، وطئت الزوجة أو الأمة أو لم تطأ ، وإن لم يقدر لم يكن ، فلا حاجة إلى التزويج والتسري ، وهلم جرا .
فهل يقول هذا عاقل أو آدمي ؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته ، فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا .
وتكايس بعضهم وقال :
nindex.php?page=treesubj&link=29495الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض يثيب الله عليه الداعي ، من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما ولا فرق عند هذا المتكيس بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب ، وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت ولا فرق .
وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء : بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه أمارة على قضاء الحاجة ، فمتى وفق العبد للدعاء كان ذلك علامة له وأمارة على أن حاجته قد انقضت ، وهذا كما إذا رأيت غيما أسود باردا في زمن الشتاء ، فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر .
قالوا : وهكذا حكم الطاعات مع الثواب ، والكفر والمعاصي مع العقاب ، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب لا أنها أسباب له .
وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار ، والحرق مع الإحراق ، والإزهاق مع القتل ليس
[ ص: 17 ] شيء من ذلك سببا البتة ، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه ، إلا مجرد الاقتران العادي ، لا التأثير السببي وخالفوا بذلك الحس والعقل ، والشرع والفطرة ، وسائر طوائف العقلاء ، بل أضحكوا عليهم العقلاء .
وللصواب أن هاهنا قسما ثالثا ، غير ما ذكره السائل ، وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب ، ومن أسبابه الدعاء ، فلم يقدر مجردا عن سببه ، ولكن قدر بسببه ، فمتى أتى العبد بالسبب ، وقع المقدور ، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور ، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب وقدر الولد بالوطء ، وقدر حصول الزرع بالبذر ، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه ، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ، ودخول النار بالأعمال ، وهذا القسم هو الحق ، وهذا الذي حرمه السائل ولم يوفق له .
الدعاء من أقوى الأسباب
وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب ، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال : لا فائدة في الدعاء ، كما لا يقال : لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال ، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ، ولا أبلغ في حصول المطلوب .
nindex.php?page=treesubj&link=32054_31198عمر يستنصر بالدعاء
ولما كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعلم الأمة بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأفقههم في دينه ، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم .
وكان
عمر - رضي الله عنه - يستنصر به على عدوه ، وكان أعظم جنديه ، وكان يقول لأصحابه : لستم تنصرون بكثرة ، وإنما تنصرون من السماء ، وكان يقول : إني لا أحمل هم الإجابة ، ولكن هم الدعاء ، فإذا ألهمتم الدعاء ، فإن الإجابة معه ، وأخذ الشاعر هذا المعنى فنظمه فقال :
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفيك ما علمتني الطلبا
فمن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة ، فإن الله سبحانه يقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=60ادعوني أستجب لكم [ سورة غافر : 60 ] وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=186وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان [ ص: 18 ] وفي سنن
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949322من لم يسأل الله يغضب عليه .
وهذا يدل على أن رضاءه في سؤاله وطاعته ، وإذا رضي الرب تبارك وتعالى فكل خير في رضاه ، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه .
وقد ذكر الإمام
أحمد في كتاب الزهد أثرا [
أنا الله ، لا إله إلا أنا ، إذا رضيت باركت ، وليس لبركتي منتهى وإذا غضبت لعنت ، ولعنتي تبلغ السابع من الولد ] .
وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم - على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها - على أن التقرب إلى رب العالمين ، وطلب مرضاته ، والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير ، وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر ، فما استجلبت نعم الله ، واستدفعت نقمته ، بمثل طاعته ، والتقرب إليه ، والإحسان إلى خلقه .
ارتباط الخير والشر بالعمل
وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة ، وحصول السرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ،
nindex.php?page=treesubj&link=29468ترتب الجزاء على الشرط ، والمعلول على العلة ، والمسبب على السبب ، وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع .
فتارة يرتب الحكم الخبري الكوني والأمر الشرعي على الوصف المناسب له كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=166عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ سورة الأعراف : 166 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=55فلما آسفونا انتقمنا منهم [ سورة الزخرف : 55 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=38والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا [ المائدة : 83 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=35إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] .
وهذا كثير جدا .
[ ص: 19 ] وتارة يرتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=29إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم [ سورة الأنفال : 29 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=11فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين [ التوبة : 11 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=16وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا [ سورة الجن : 16 ] .
ونظائره .
وتارة يأتي بلام التعليل كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=29ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ سورة ص : 29 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ سورة البقرة : 143 ] .
وتارة يأتي بأداة كي التي للتعليل كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ سورة الحشر : 77 ] .
وتارة يأتي بباء السببية ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=182ذلك بما قدمت أيديكم [ سورة آل عمران : 182 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=105بما كنتم تعملون [ سورة المائدة : 105 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=39بما كنتم تكسبون ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=112ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله [ سورة آل عمران : 112 ] .
وتارة يأتي بالمفعول لأجله ظاهرا أو محذوفا ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ سورة البقرة : 282 ] .
وكقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين [ سورة الأعراف : 172 ]
[ ص: 20 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=156أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا [ سورة الأنعام : 156 ] ، أي : كراهة أن تقولوا .
وتارة يأتي بفاء السببية كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=91&ayano=14فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها [ سورة الشمس : 14 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=10فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية [ سورة الحاقة : 10 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=48فكذبوهما فكانوا من المهلكين المؤمنون : 48 ] .
وتارة يأتي بأداة [ لما ] الدالة على الجزاء ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=55فلما آسفونا انتقمنا منهم [ سورة الزخرف : 55 ] .
ونظائره .
وتارة يأتي بإن وما عملت فيه ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=90إنهم كانوا يسارعون في الخيرات [ سورة الأنبياء : 90 ] .
وقوله في ضوء هؤلاء :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=77إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين [ الأنبياء : 77 ] .
وتارة يأتي بأداة " لولا " ، الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=143فلولا أنه كان من المسبحين nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=144للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [ سورة الصافات : 143 - 144 ] .
وتارة يأتي " بلو " الدالة على الشرط كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=66ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم [ سورة النساء : 66 ] .
وبالجملة فالقرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب ، بل ترتيب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال .
ومن تفقه في هذه المسألة وتأملها حق التأمل انتفع بها غاية النفع ، ولم يتكل على
[ ص: 21 ] القدر جهلا منه ، وعجزا وتفريطا وإضاعة ، فيكون توكله عجزا ، وعجزه توكلا ، بل الفقيه كل الفقه الذي يرد القدر بالقدر ، ويدفع القدر بالقدر ، ويعارض القدر بالقدر ، بل لا يمكن لإنسان أن يعيش إلا بذلك ، فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر .
والخلق كلهم ساهون في دفع هذا القدر بالقدر ، وهكذا من وفقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة ، فهذا وزان القدر المخوف في الدنيا وما يضاده سواء ، فرب الدارين واحد وحكمته واحدة لا يناقض بعضها بعضا ، ولا يبطل بعضها بعضا ، فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها ، ورعاها حق رعايتها ، والله المستعان .
لكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادته وفلاحه .
أحدهما : أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير ، ويكون له بصيرة في ذلك بما يشاهده في العالم ، وما جربه في نفسه وغيره ، وما سمعه من أخبار الأمم قديما وحديثا .
التاريخ تفصيل لما جاء عن الله
ومن أنفع ما في ذلك تدبر القرآن فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه ، وفيه أسباب الخير والشر جميعا مفصلة مبينة ، ثم السنة ، فإنها شقيقة القرآن ، وهي الوحي الثاني ، ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما من غيرهما ، وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما ، حتى كأنك تعاين ذلك عيانا ، وبعد ذلك إذا تأملت أخبار الأمم ، وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته ، طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة ، ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به ، ووعد به ، وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق ، وأن الرسول حق ، وأن الله ينجز وعده لا محالة ، فالتاريخ تفصيل لجزئيات ما عرفنا الله ورسوله من الأسباب الكلية للخير والشر .
فَصْلٌ
nindex.php?page=treesubj&link=19733_19734الدُّعَاءُ وَالْقَدَرُ
[ ص: 16 ] وَهَاهُنَا سُؤَالٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ :
أَنَّ الْمَدْعُوَّ بِهِ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ وُقُوعِهِ ، دَعَا بِهِ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَدْعُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدِّرَ لَمْ يَقَعْ ، سَوَاءٌ سَأَلَهُ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ .
فَظَنَّتْ طَائِفَةٌ صِحَّةَ هَذَا السُّؤَالِ ، فَتَرَكَتِ الدُّعَاءَ وَقَالَتْ : لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَهَؤُلَاءِ مَعَ فَرْطِ جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ ، مُتَنَاقِضُونَ فَإِنَّ طَرْدَ مَذْهَبِهِمْ يُوجِبُ تَعْطِيلَ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ فَيُقَالُ لِأَحَدِهِمْ :
إِنْ كَانَ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ قَدْ قُدِّرَا لَكَ فَلَابُدَّ مِنْ وُقُوعِهِمَا ، أَكَلْتَ أَوْ لَمْ تَأْكُلْ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرَا لَمْ يَقَعَا أَكَلْتَ أَوْ لَمْ تَأْكُلْ .
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ قُدِّرَ لَكَ فَلَابُدَّ مِنْهُ ، وَطِئْتَ الزَّوْجَةَ أَوِ الْأَمَةَ أَوْ لَمْ تَطَأْ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَمْ يَكُنْ ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّزْوِيجِ وَالتَّسَرِّي ، وَهَلُمَّ جَرَّا .
فَهَلْ يَقُولُ هَذَا عَاقِلٌ أَوْ آدَمِيٌّ ؟ بَلِ الْحَيَوَانُ الْبَهِيمُ مَفْطُورٌ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ وَحَيَاتُهُ ، فَالْحَيَوَانَاتُ أَعْقَلُ وَأَفْهَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا .
وَتَكَايَسَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=29495الِاشْتِغَالُ بِالدُّعَاءِ مِنْ بَابِ التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ يُثِيبُ اللَّهُ عَلَيْهِ الدَّاعِيَ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْمَطْلُوبِ بِوَجْهٍ مَا وَلَا فَرْقَ عِنْدَ هَذَا الْمُتَكَيِّسِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالْإِمْسَاكِ عَنْهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فِي التَّأْثِيرِ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ ، وَارْتِبَاطُ الدُّعَاءِ عِنْدَهُمْ بِهِ كَارْتِبَاطِ السُّكُوتِ وَلَا فَرْقَ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى أَكْيَسُ مِنْ هَؤُلَاءِ : بَلِ الدُّعَاءُ عَلَامَةٌ مُجَرَّدَةٌ نَصَبَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَارَةً عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ ، فَمَتَى وُفِّقَ الْعَبْدُ لِلدُّعَاءِ كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً لَهُ وَأَمَارَةً عَلَى أَنَّ حَاجَتَهُ قَدِ انْقَضَتْ ، وَهَذَا كَمَا إِذَا رَأَيْتَ غَيْمًا أَسْوَدَ بَارِدًا فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ وَعَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُمْطِرُ .
قَالُوا : وَهَكَذَا حُكْمُ الطَّاعَاتِ مَعَ الثَّوَابِ ، وَالْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي مَعَ الْعِقَابِ ، هِيَ أَمَارَاتٌ مَحْضَةٌ لِوُقُوعِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا أَنَّهَا أَسْبَابٌ لَهُ .
وَهَكَذَا عِنْدَهُمُ الْكَسْرُ مَعَ الِانْكِسَارِ ، وَالْحَرْقُ مَعَ الْإِحْرَاقِ ، وَالْإِزْهَاقُ مَعَ الْقَتْلِ لَيْسَ
[ ص: 17 ] شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ سَبَبًا الْبَتَّةَ ، وَلَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ، إِلَّا مُجَرَّدُ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ ، لَا التَّأْثِيرُ السَّبَبِيُّ وَخَالَفُوا بِذَلِكَ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ ، وَالشَّرْعَ وَالْفِطْرَةَ ، وَسَائِرَ طَوَائِفِ الْعُقَلَاءِ ، بَلْ أَضْحَكُوا عَلَيْهِمُ الْعُقَلَاءَ .
وَلِلصَّوَابِ أَنَّ هَاهُنَا قِسْمًا ثَالِثًا ، غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْمَقْدُورَ قُدِّرَ بِأَسْبَابٍ ، وَمِنْ أَسْبَابِهِ الدُّعَاءُ ، فَلَمْ يُقَدَّرْ مُجَرَّدًا عَنْ سَبَبِهِ ، وَلَكِنْ قُدِّرَ بِسَبَبِهِ ، فَمَتَى أَتَى الْعَبْدُ بِالسَّبَبِ ، وَقَعَ الْمَقْدُورُ ، وَمَتَى لَمْ يَأْتِ بِالسَّبَبِ انْتَفَى الْمَقْدُورُ ، وَهَذَا كَمَا قُدِّرَ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقُدِّرَ الْوَلَدُ بِالْوَطْءِ ، وَقُدِّرَ حُصُولُ الزَّرْعِ بِالْبَذْرِ ، وَقُدِّرَ خُرُوجُ نَفْسِ الْحَيَوَانِ بِذَبْحِهِ ، وَكَذَلِكَ قُدِّرَ دُخُولُ الْجَنَّةِ بِالْأَعْمَالِ ، وَدُخُولُ النَّارِ بِالْأَعْمَالِ ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْحَقُّ ، وَهَذَا الَّذِي حُرِمَهُ السَّائِلُ وَلَمْ يُوَفَّقْ لَهُ .
الدُّعَاءُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ
وَحِينَئِذٍ فَالدُّعَاءُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ ، فَإِذَا قُدِّرَ وُقُوعُ الْمَدْعُوِّ بِهِ بِالدُّعَاءِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ : لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ ، كَمَا لَا يُقَالُ : لَا فَائِدَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَجَمِيعِ الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْمَالِ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَسْبَابِ أَنْفَعَ مِنَ الدُّعَاءِ ، وَلَا أَبْلَغَ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ .
nindex.php?page=treesubj&link=32054_31198عُمَرُ يَسْتَنْصِرُ بِالدُّعَاءِ
وَلَمَّا كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَعْلَمَ الْأُمَّةِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفْقَهَهُمْ فِي دِينِهِ ، كَانُوا أَقْوَمَ بِهَذَا السَّبَبِ وَشُرُوطِهِ وَآدَابِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ .
وَكَانَ
عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْتَنْصِرُ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِ ، وَكَانَ أَعْظَمَ جُنْدَيْهِ ، وَكَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ : لَسْتُمْ تُنْصَرُونَ بِكَثْرَةٍ ، وَإِنَّمَا تُنْصَرُونَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَكَانَ يَقُولُ : إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ ، وَلَكِنْ هَمَّ الدُّعَاءِ ، فَإِذَا أُلْهِمْتُمُ الدُّعَاءَ ، فَإِنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ ، وَأَخَذَ الشَّاعِرُ هَذَا الْمَعْنَى فَنَظَمَهُ فَقَالَ :
لَوْ لَمْ تُرِدْ نَيْلَ مَا أَرْجُو وَأَطْلُبُهُ مِنْ جُودِ كَفَّيْكَ مَا عَلَّمْتَنِي الطَّلَبَا
فَمَنْ أُلْهِمَ الدُّعَاءَ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الْإِجَابَةُ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=60ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ سُورَةُ غَافِرٍ : 60 ] وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=186وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [ ص: 18 ] وَفِي سُنَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949322مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِضَاءَهُ فِي سُؤَالِهِ وَطَاعَتِهِ ، وَإِذَا رَضِيَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَكُلُّ خَيْرٍ فِي رِضَاهُ ، كَمَا أَنَّ كُلَّ بَلَاءٍ وَمُصِيبَةٍ فِي غَضَبِهِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ أَثَرًا [
أَنَا اللَّهُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ، إِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ ، وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي مُنْتَهًى وَإِذَا غَضِبْتُ لَعَنْتُ ، وَلَعْنَتِي تَبْلُغُ السَّابِعَ مِنَ الْوَلَدِ ] .
وَقَدْ دَلَّ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَالْفِطْرَةُ وَتَجَارِبُ الْأُمَمِ - عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَمِلَلِهَا وَنِحَلِهَا - عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَطَلَبِ مَرْضَاتِهِ ، وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِكُلِّ خَيْرٍ ، وَأَضْدَادَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِكُلِّ شَرٍّ ، فَمَا اسْتُجْلِبَتْ نِعَمُ اللَّهِ ، وَاسْتُدْفِعَتْ نِقْمَتُهُ ، بِمِثْلِ طَاعَتِهِ ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ .
ارْتِبَاطُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِالْعَمَلِ
وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حُصُولَ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَحُصُولَ السُّرُورِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْأَعْمَالِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=29468تُرَتُّبَ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ ، وَالْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ ، وَالْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ ، وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ يَزِيدُ عَلَى أَلْفِ مَوْضِعٍ .
فَتَارَةً يُرَتِّبُ الْحُكْمَ الْخَبَرِيَّ الْكَوْنِيَّ وَالْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=166عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 166 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=55فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [ سُورَةُ الزُّخْرُفِ : 55 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=38وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا [ الْمَائِدَةِ : 83 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=35إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [ الْأَحْزَابِ : 35 ] .
وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا .
[ ص: 19 ] وَتَارَةً يُرَتِّبُهُ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=29إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [ سُورَةُ الْأَنْفَالِ : 29 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=11فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [ التَّوْبَةِ : 11 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=16وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [ سُورَةُ الْجِنِّ : 16 ] .
وَنَظَائِرِهِ .
وَتَارَةً يَأْتِي بِلَامِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=29لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ سُورَةُ ص : 29 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 143 ] .
وَتَارَةً يَأْتِي بِأَدَاةِ كَيِ الَّتِي لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [ سُورَةُ الْحَشْرِ : 77 ] .
وَتَارَةً يَأْتِي بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=182ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 182 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=105بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 105 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=39بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=112ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 112 ] .
وَتَارَةً يَأْتِي بِالْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ ظَاهِرًا أَوْ مَحْذُوفًا ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 282 ] .
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [ سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 172 ]
[ ص: 20 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=156أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 156 ] ، أَيْ : كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا .
وَتَارَةً يَأْتِي بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=91&ayano=14فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [ سُورَةُ الشَّمْسِ : 14 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=10فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً [ سُورَةُ الْحَاقَّةِ : 10 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=48فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ الْمُؤْمِنُونَ : 48 ] .
وَتَارَةً يَأْتِي بِأَدَاةِ [ لَمَّا ] الدَّالَّةِ عَلَى الْجَزَاءِ ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=55فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [ سُورَةُ الزُّخْرُفِ : 55 ] .
وَنَظَائِرِهِ .
وَتَارَةً يَأْتِي بِإِنَّ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=90إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ : 90 ] .
وَقَوْلِهِ فِي ضَوْءِ هَؤُلَاءِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=77إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ : 77 ] .
وَتَارَةً يَأْتِي بِأَدَاةِ " لَوْلَا " ، الدَّالَّةِ عَلَى ارْتِبَاطِ مَا قَبْلَهَا بِمَا بَعْدَهَا ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=143فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=144لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ سُورَةُ الصَّافَّاتِ : 143 - 144 ] .
وَتَارَةً يَأْتِي " بِلَوِ " الدَّالَّةِ عَلَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=66وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 66 ] .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقُرْآنُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ صَرِيحٌ فِي تُرَتُّبِ الْجَزَاءِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْأَحْكَامِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْأَمْرِيَّةِ عَلَى الْأَسْبَابِ ، بَلْ تَرْتِيبِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَصَالِحِهِمَا وَمَفَاسِدِهِمَا عَلَى الْأَسْبَابِ وَالْأَعْمَالِ .
وَمَنْ تَفَقَّهَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَأَمَّلَهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ انْتَفَعَ بِهَا غَايَةَ النَّفْعِ ، وَلَمْ يَتَّكِلْ عَلَى
[ ص: 21 ] الْقَدَرِ جَهْلًا مِنْهُ ، وَعَجْزًا وَتَفْرِيطًا وَإِضَاعَةً ، فَيَكُونُ تَوَكُّلُهُ عَجْزًا ، وَعَجْزُهُ تَوَكُّلًا ، بَلِ الْفَقِيهُ كُلَّ الْفِقْهِ الَّذِي يَرُدُّ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ ، وَيَدْفَعُ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ ، وَيُعَارِضُ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ ، بَلْ لَا يُمْكِنُ لِإِنْسَانٍ أَنْ يَعِيشَ إِلَّا بِذَلِكَ ، فَإِنَّ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ وَالْبَرْدَ وَأَنْوَاعَ الْمَخَاوِفِ وَالْمَحَاذِيرِ هِيَ مِنَ الْقَدَرِ .
وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ سَاهُونَ فِي دَفْعِ هَذَا الْقَدَرِ بِالْقَدَرِ ، وَهَكَذَا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ يَدْفَعُ قَدَرَ الْعُقُوبَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِقَدَرِ التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، فَهَذَا وِزَانُ الْقَدَرِ الْمُخَوِّفِ فِي الدُّنْيَا وَمَا يُضَادُّهُ سَوَاءٌ ، فَرَبُّ الدَّارَيْنِ وَاحِدٌ وَحِكْمَتُهُ وَاحِدَةٌ لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَلَا يُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَشْرَفِ الْمَسَائِلِ لِمَنْ عَرَفَ قَدْرَهَا ، وَرَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
لَكِنْ يَبْقَى عَلَيْهِ أَمْرَانِ بِهِمَا تَتِمُّ سَعَادَتُهُ وَفَلَاحُهُ .
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْرِفَ تَفَاصِيلَ أَسْبَابِ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ ، وَيَكُونَ لَهُ بَصِيرَةٌ فِي ذَلِكَ بِمَا يُشَاهِدُهُ فِي الْعَالَمِ ، وَمَا جَرَّبَهُ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ ، وَمَا سَمِعَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا .
التَّارِيخُ تَفْصِيلٌ لِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ
وَمِنْ أَنْفَعِ مَا فِي ذَلِكَ تُدَبُّرُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ كَفِيلٌ بِذَلِكَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ ، وَفِيهِ أَسْبَابُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا مُفَصَّلَةً مُبَيَّنَةً ، ثُمَّ السُّنَّةِ ، فَإِنَّهَا شَقِيقَةُ الْقُرْآنِ ، وَهِيَ الْوَحْيُ الثَّانِي ، وَمَنْ صَرَفَ إِلَيْهِمَا عِنَايَتَهُ اكْتَفَى بِهِمَا مِنْ غَيْرِهِمَا ، وَهُمَا يُرِيَانِكَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَأَسْبَابَهُمَا ، حَتَّى كَأَنَّكَ تُعَايِنُ ذَلِكَ عِيَانًا ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ أَخْبَارَ الْأُمَمِ ، وَأَيَّامَ اللَّهِ فِي أَهْلِ طَاعَتِهِ وَأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ ، طَابَقَ ذَلِكَ مَا عَلِمْتَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، وَرَأَيْتَهُ بِتَفَاصِيلِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ ، وَوَعَدَ بِهِ ، وَعَلِمْتَ مِنْ آيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ مَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ ، وَأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ، وَأَنَّ اللَّهَ يُنْجِزُ وَعْدَهُ لَا مَحَالَةَ ، فَالتَّارِيخُ تَفْصِيلٌ لِجُزْئِيَّاتِ مَا عَرَّفَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْكُلِّيَّةِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ .