فصل
nindex.php?page=treesubj&link=29494_30525العقوبات القدرية على الأبدان
والتي على الأبدان أيضا نوعان :
نوع في الدنيا .
ونوع في الآخرة .
[ ص: 115 ] وشدتها ودوامها بحسب مفاسد ما رتبت عليه في الشدة والخلقة ، فليس في الدنيا والآخرة شر أصلا إلا الذنوب وعقوباتها ، فالشر اسم لذلك كله ، وأصله من شر النفس وسيئات الأعمال ، وهما الأصلان اللذان كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ منهما في خطبته بقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949449ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .
وسيئات الأعمال من شرور النفس ، فعاد الشر كله إلى شر النفس ، فإن سيئات الأعمال من فروعه وثمراته .
وقد اختلف في
nindex.php?page=treesubj&link=28847معنى قوله : nindex.php?page=hadith&LINKID=949450ومن سيئات أعمالنا هل معناه : السيئ من أعمالنا ، فيكون من باب إضافة النوع إلى جنسه ، أو تكون " من " بيانية ؟ وقيل : معناه : من عقوباتها التي تسوء ، فيكون التقدير : ومن عقوبات أعمالنا التي تسوءنا ، ويرجح هذا القول : أن الاستعاذة تكون قد تضمنت جميع الشر ، فإن شرور الأنفس تستلزم الأعمال السيئة ، وهي تستلزم العقوبات السيئة ، فنبه بشرور الأنفس على ما تقتضيه من قبح الأعمال ، واكتفى بذكرها منه ، أو هي أصله ثم ذكر غاية الشر ومنتهاه ، فهو السيئات التي تسوء العبد من عمله ، من العقوبات والآلام ، فتضمنت هذه الاستعاذة أصل الشر وفروعه وغايته ومقتضاه .
ومن دعاء الملائكة للمؤمنين قولهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=9وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته [ سورة غافر : 9 ] .
فهذا يتضمن طلب وقايتهم من سيئات الأعمال وعقوباتها التي تسوء صاحبها ، فإنه سبحانه متى وقاهم عمل السيئ وقاهم جزاء السيئ ، وإن كان قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=9ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته أظهر في عقوبات الأعمال المطلوب وقايتها يومئذ .
فإن قيل : فقد سألوه سبحانه أن يقيهم عذاب الجحيم ، وهذا هو وقاية العقوبات السيئة ، فدل على أن المراد بالسيئة التي سألوا وقايتها ، الأعمال السيئة ، يكون الذي سأله الملائكة نظير ما استعاذ منه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ولا يرد على هذا قوله : " يومئذ " فإن المطلوب وقاية شرور سيئات الأعمال ذلك اليوم ، وهي سيئات في أنفسها .
قيل :
nindex.php?page=treesubj&link=29558وقاية السيئات نوعان .
أحدهما : وقاية فعلها بالتوفيق فلا تصدر منه .
والثاني : وقاية جزائها بالمغفرة ، فلا يعاقب عليها ، فتضمنت الآية سؤال الأمرين ، والظرف تقييد للجملة الشرطية لا للجملة الطلبية .
[ ص: 116 ] وتأمل ما تضمنه هذا الخبر عن الملائكة من مدحهم بالإيمان والعمل الصالح والإحسان إلى المؤمنين بالاستغفار لهم ، وقدموا بين يدي استغفارهم توسلهم إلى الله تعالى بسعة علمه وسعة رحمته ، فسعة علمه يتضمن علمه بذنوبهم وأسبابها وضعفهم عن العصمة ، واستيلاء عدوهم وأنفسهم وهواهم وطباعهم وما زين لهم من الدنيا وزينتها ، وعلمه بهم إذ أنشأهم من الأرض ، وإذ هم أجنة في بطون أمهاتهم ، وعلمه السابق بأنهم لا بد أن يعصوه ، وأنه يحب العفو والمغفرة ، وغير ذلك من سعة علمه الذي لا يحيط به أحد سواه .
وسعة رحمته تتضمن أنه لا يهلك عليه أحد من المؤمنين به أهل توحيده ومحبته ، فإنه واسع الرحمة لا يخرج عن دائرة رحمته إلا الأشقياء ، ولا أشقى ممن لم تسعه رحمته التي وسعت كل شيء ، ثم سألوه أن يغفر للتائبين الذين اتبعوا سبيله ، وهو صراطه الموصل إليه الذي هو معرفته ومحبته وطاعته ، فتابوا مما يكره ، واتبعوا السبيل التي يحبها ، ثم سألوه أن يقيهم عذاب الجحيم ، وأن يدخلهم والمؤمنين من أصولهم وفروعهم وأزواجهم جنات عدن التي وعدهم بها ، وهو سبحانه ، وإن كان لا يخلف الميعاد ، فإنه وعدهم بها بأسباب ، ومن جملتها : دعاء ملائكته لهم أن يدخلهم إياها برحمته التي منها أن وفقهم لأعمالهم وأقام ملائكته يدعون لهم بها .
ثم أخبر سبحانه عن ملائكته أنهم قالوا عقيب هذه الدعوة :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=8إنك أنت العزيز الحكيم [ سورة غافر : 8 ] .
أي مصدر ذلك وسببه وغايته صادر عن كمال قدرتك وكمال علمك ، فإن العزة كمال القدرة ، والحكمة كمال العلم ، وبهاتين الصفتين يقضي سبحانه وتعالى ما شاء ، ويأمر وينهى ويثيب ويعاقب ، فهاتان الصفتان مصدر الخلق والأمر .
والمقصود أن
nindex.php?page=treesubj&link=29494عقوبات السيئات تتنوع إلى عقوبات شرعية ، وعقوبات قدرية ، وهي إما في القلب ، وإما في البدن ، وإما فيهما ، وعقوبات في دار البرزخ بعد الموت ، وعقوبات يوم عود الأجساد ، فالذنب لا يخلو من عقوبة ألبتة ، ولكن لجهل العبد لا يشعر بما فيه من العقوبة ، لأنه بمنزلة السكران والمخدر والنائم الذي لا يشعر بالألم ، فترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق على النار ، والكسر على الانكسار ، والغرق على الماء ، وفساد البدن على السموم ، والأمراض على الأسباب الجالبة لها ، وقد تقارن المضرة الذنب وقد تتأخر عنه ، إما يسيرا وإما مدة ، كما يتأخر المرض عن سببه أن يقارنه ، وكثيرا ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام ويذنب الذنب فلا يرى أثره عقبه ، ولا يدري أنه يعمل عمله على التدريج شيئا فشيئا ، كما تعمل السموم والأشياء
[ ص: 117 ] الضارة حذو القذة بالقذة ، فإن تدارك العبد نفسه بالأدوية والاستفراغ والحمية ، وإلا فهو صائر إلى الهلاك ، هذا إذا كان ذنبا واحدا لم يتداركه بما يزيل أثره ، فكيف بالذنب على الذنب كل يوم وكل ساعة ؟ والله المستعان .
فَصْلٌ
nindex.php?page=treesubj&link=29494_30525الْعُقُوبَاتُ الْقَدَرِيَّةُ عَلَى الْأَبْدَانِ
وَالَّتِي عَلَى الْأَبْدَانِ أَيْضًا نَوْعَانِ :
نَوْعٌ فِي الدُّنْيَا .
وَنَوْعٌ فِي الْآخِرَةِ .
[ ص: 115 ] وَشِدَّتُهَا وَدَوَامُهَا بِحَسَبِ مَفَاسِدِ مَا رُتِّبَتْ عَلَيْهِ فِي الشِّدَّةِ وَالْخِلْقَةِ ، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَرٌّ أَصْلًا إِلَّا الذُّنُوبَ وَعُقُوبَاتِهَا ، فَالشَّرُّ اسْمٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ ، وَأَصْلُهُ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ وَسَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ ، وَهُمَا الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَعِيذُ مِنْهُمَا فِي خُطْبَتِهِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949449وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا .
وَسَيِّئَاتُ الْأَعْمَالِ مِنْ شُرُورِ النَّفْسِ ، فَعَادَ الشَّرُّ كُلُّهُ إِلَى شَرِّ النَّفْسِ ، فَإِنَّ سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ مِنْ فُرُوعِهِ وَثَمَرَاتِهِ .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28847مَعْنَى قَوْلِهِ : nindex.php?page=hadith&LINKID=949450وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا هَلْ مَعْنَاهُ : السَّيِّئُ مِنْ أَعْمَالِنَا ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ النَّوْعِ إِلَى جِنْسِهِ ، أَوْ تَكُونُ " مِنْ " بَيَانِيَّةً ؟ وَقِيلَ : مَعْنَاهُ : مِنْ عُقُوبَاتِهَا الَّتِي تَسُوءُ ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ : وَمِنْ عُقُوبَاتِ أَعْمَالِنَا الَّتِي تَسُوءُنَا ، وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقَوْلَ : أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ تَكُونُ قَدْ تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ الشَّرِّ ، فَإِنَّ شُرُورَ الْأَنْفُسِ تَسْتَلْزِمُ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ ، وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْعُقُوبَاتِ السَّيِّئَةَ ، فَنَبَّهَ بِشُرُورِ الْأَنْفُسِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِنْ قُبْحِ الْأَعْمَالِ ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِهَا مِنْهُ ، أَوْ هِيَ أَصْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ غَايَةَ الشَّرِّ وَمُنْتَهَاهُ ، فَهُوَ السَّيِّئَاتُ الَّتِي تَسُوءُ الْعَبْدَ مِنْ عَمَلِهِ ، مِنَ الْعُقُوبَاتِ وَالْآلَامِ ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةُ أَصْلَ الشَّرِّ وَفُرُوعَهُ وَغَايَتَهُ وَمُقْتَضَاهُ .
وَمِنْ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ قَوْلُهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=9وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ [ سُورَةُ غَافِرٍ : 9 ] .
فَهَذَا يَتَضَمَّنُ طَلَبَ وِقَايَتِهِمْ مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ وَعُقُوبَاتِهَا الَّتِي تَسُوءُ صَاحِبَهَا ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مَتَى وَقَاهُمْ عَمَلَ السَّيِّئِ وَقَاهُمْ جَزَاءَ السَّيِّئِ ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=9وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ أَظْهَرَ فِي عُقُوبَاتِ الْأَعْمَالِ الْمَطْلُوبِ وِقَايَتُهَا يَوْمَئِذٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ سَأَلُوهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، وَهَذَا هُوَ وِقَايَةُ الْعُقُوبَاتِ السَّيِّئَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّيِّئَةِ الَّتِي سَأَلُوا وِقَايَتَهَا ، الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ ، يَكُونُ الَّذِي سَأَلَهُ الْمَلَائِكَةُ نَظِيرَ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ : " يَوْمَئِذٍ " فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ وِقَايَةُ شُرُورِ سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ ذَلِكَ الْيَوْمَ ، وَهِيَ سَيِّئَاتٌ فِي أَنْفُسِهَا .
قِيلَ :
nindex.php?page=treesubj&link=29558وِقَايَةُ السَّيِّئَاتِ نَوْعَانِ .
أَحَدُهُمَا : وِقَايَةُ فِعْلِهَا بِالتَّوْفِيقِ فَلَا تَصْدُرُ مِنْهُ .
وَالثَّانِي : وِقَايَةُ جَزَائِهَا بِالْمَغْفِرَةِ ، فَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا ، فَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ سُؤَالَ الْأَمْرَيْنِ ، وَالظَّرْفُ تَقْيِيدٌ لِلْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ لَا لِلْجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ .
[ ص: 116 ] وَتَأَمَّلْ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْخَبَرُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ مَدْحِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ ، وَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اسْتِغْفَارِهِمْ تَوَسُّلَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِسَعَةِ عِلْمِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ ، فَسَعَةُ عِلْمِهِ يَتَضَمَّنُ عِلْمَهُ بِذُنُوبِهِمْ وَأَسْبَابِهَا وَضَعْفِهِمْ عَنِ الْعِصْمَةِ ، وَاسْتِيلَاءِ عَدُوِّهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَهَوَاهُمْ وَطِبَاعِهِمْ وَمَا زُيِّنَ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ، وَعِلْمَهُ بِهِمْ إِذْ أَنْشَأَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ ، وَإِذْ هُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ ، وَعِلْمَهُ السَّابِقَ بِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْصُوهُ ، وَأَنَّهُ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ سَعَةِ عِلْمِهِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ أَحَدٌ سِوَاهُ .
وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا يَهْلَكُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَمَحَبَّتِهِ ، فَإِنَّهُ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ لَا يُخْرِجُ عَنْ دَائِرَةِ رَحِمَتِهِ إِلَّا الْأَشْقِيَاءَ ، وَلَا أَشْقَى مِمَّنْ لَمْ تَسَعْهُ رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ، ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لِلتَّائِبِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَبِيلَهُ ، وَهُوَ صِرَاطُهُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَطَاعَتُهُ ، فَتَابُوا مِمَّا يَكْرَهُ ، وَاتَّبَعُوا السَّبِيلَ الَّتِي يُحِبُّهَا ، ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، وَأَنْ يُدْخِلَهُمْ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَهُمْ بِهَا ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، فَإِنَّهُ وَعَدَهُمْ بِهَا بِأَسْبَابٍ ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا : دُعَاءُ مَلَائِكَتِهِ لَهُمْ أَنْ يُدْخِلَهُمْ إِيَّاهَا بِرَحْمَتِهِ الَّتِي مِنْهَا أَنْ وَفَّقَهُمْ لِأَعْمَالِهِمْ وَأَقَامَ مَلَائِكَتَهُ يَدْعُونَ لَهُمْ بِهَا .
ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ مَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا عَقِيبَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=8إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ سُورَةُ غَافِرٍ : 8 ] .
أَيْ مَصْدَرُ ذَلِكَ وَسَبَبُهُ وَغَايَتُهُ صَادِرٌ عَنْ كَمَالِ قُدْرَتِكَ وَكَمَالِ عِلْمِكَ ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ كَمَالُ الْقُدْرَةِ ، وَالْحِكْمَةَ كَمَالُ الْعِلْمِ ، وَبِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ يَقْضِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا شَاءَ ، وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ ، فَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مَصْدَرُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29494عُقُوبَاتِ السَّيِّئَاتِ تَتَنَوَّعُ إِلَى عُقُوبَاتٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَعُقُوبَاتٍ قَدَرِيَّةٍ ، وَهِيَ إِمَّا فِي الْقَلْبِ ، وَإِمَّا فِي الْبَدَنِ ، وَإِمَّا فِيهِمَا ، وَعُقُوبَاتٍ فِي دَارِ الْبَرْزَخِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَعُقُوبَاتٍ يَوْمَ عَوْدِ الْأَجْسَادِ ، فَالذَّنْبُ لَا يَخْلُو مِنْ عُقُوبَةٍ أَلْبَتَّةَ ، وَلَكِنْ لِجَهْلِ الْعَبْدِ لَا يَشْعُرُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّكْرَانِ وَالْمُخَدَّرِ وَالنَّائِمِ الَّذِي لَا يَشْعُرُ بِالْأَلَمِ ، فَتَرَتُّبُ الْعُقُوبَاتِ عَلَى الذُّنُوبِ كَتَرَتُّبِ الْإِحْرَاقِ عَلَى النَّارِ ، وَالْكَسْرِ عَلَى الِانْكِسَارِ ، وَالْغَرَقِ عَلَى الْمَاءِ ، وَفَسَادِ الْبَدَنِ عَلَى السُّمُومِ ، وَالْأَمْرَاضِ عَلَى الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لَهَا ، وَقَدْ تُقَارِنُ الْمَضَرَّةُ الذَّنْبَ وَقَدْ تَتَأَخَّرُ عَنْهُ ، إِمَّا يَسِيرًا وَإِمَّا مُدَّةً ، كَمَا يَتَأَخَّرُ الْمَرَضُ عَنْ سَبَبِهِ أَنْ يُقَارِنَهُ ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْغَلَطُ لِلْعَبْدِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَلَا يَرَى أَثَرَهُ عَقِبَهُ ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُ عَلَى التَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، كَمَا تَعْمَلُ السُّمُومُ وَالْأَشْيَاءُ
[ ص: 117 ] الضَّارَّةُ حَذْوَ الْقَذَّةِ بِالْقَذَّةِ ، فَإِنْ تَدَارَكَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ بِالْأَدْوِيَةِ وَالِاسْتِفْرَاغِ وَالْحِمْيَةِ ، وَإِلَّا فَهُوَ صَائِرٌ إِلَى الْهَلَاكِ ، هَذَا إِذَا كَانَ ذَنْبًا وَاحِدًا لَمْ يَتَدَارَكْهُ بِمَا يُزِيلُ أَثَرَهُ ، فَكَيْفَ بِالذَّنْبِ عَلَى الذَّنْبِ كُلَّ يَوْمٍ وَكُلَّ سَاعَةٍ ؟ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .