ذكر طغرلبك إلى الموصل مسير السلطان
لما طال مقام السلطان طغرلبك ببغداذ ، وعم الخلق ضرر عسكره ، وضاقت عليهم مساكنهم ، فإن العساكر نزلوا فيها ، وغلبوهم على أقواتهم ، وارتكبوا منهم كل محظور ، أمر الخليفة القائم بأمر الله وزيره رئيس الرؤساء أن يكتب إلى ، وزير السلطان عميد الملك الكندري طغرلبك ، يستحضره ، فإذا حضر قال له عن الخليفة ليعرف السلطان ما الناس فيه من الجور والظلم ، ويعظه ويذكره ، فإن أزال ذلك ، وفعل ما أمر الله به ، وإلا فيساعد الخليفة على الانتزاح عن بغداذ ليبعد عن المنكرات .
فكتب رئيس الرؤساء إلى الكندري يستدعيه ، فحضر ، فأبلغه ما أمر به الخليفة ، وخرج توقيع من الخليفة إلى السلطان فيه مواعظ ، فمضى إلى السلطان وعرفه الحال ، فاعتذر بكثرة العساكر ، وعجزه عن تهذيبهم وضبطهم ، وأمر عميد الملك أن يبكر بالجواب إلى رئيس الرؤساء ، ويعتذر بما ذكره .
[ ص: 141 ] فلما كان تلك الليلة رأى السلطان في منامه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الكعبة وكأنه يسلم على النبي وهو معرض عنه لم يلتفت إليه ، وقال له : يحكمك الله في بلاده وعباده ، فلا تراقبه فيهم ، ولا تستحيي من جلاله - عز وجل - في سوء معاملتهم ، وتغتر بإهماله عند الجور عليهم !
فاستيقظ فزعا ، وأحضر عميد الملك ، وحدثه ما رأى ، وأرسله إلى الخليفة يعرفه أنه يقابل ما رسم به بالسمع والطاعة ، وأخرج الجند من دور العامة ، وأمر أن يظهر من كان مختفيا ، وأزال التوكيل عمن كان وكل به .
فبينما هو على ذلك ، وقد عزم على الرحيل عن بغداذ للتخفيف عن أهلها ، وهو يتردد فيه ، إذ أتاه الخبر بهذه الوقعة المتقدمة ، فتجهز وسار عن بغداذ عاشر ذي القعدة ، ومعه خزائن السلاح ، والمنجنيقات ، وكان مقامه ببغداذ ثلاثة عشر شهرا وأياما ، لم يلق الخليفة فيها ، فلما بلغوا أوانا نهبها العسكر ، ونهبوا عكبرا وغيرهما .
ووصل إلى تكريت فحصرها ، وبها صاحبها نصر بن ( علي بن خميس ) فنصب على القلعة علما أسود ، وبذل مالا ، فقبله السلطان . ورحل عنه إلى البوازيج ينتظر جمع العساكر ليسير إلى الموصل ، فلما رحل عن تكريت توفي صاحبها ، وكانت أمه أميرة بنت غريب بن مقن ، فخافت أن يملك البلدة أخوه أبو الغشام ، فقتلته وسارت إلى الموصل ، فنزلت على ، فتزوجها دبيس بن مزيد قريش بن بدران ، ولما رحلت عن تكريت استخلفت بها أبا الغنائم ابن المحلبان ، فراسل رئيس الرؤساء واستعطفه ، فصلح ما بينهما ، وسلم تكريت إلى السلطان ورحل إلى بغداذ .
وأقام السلطان بالبوازيج إلى أن دخلت سنة تسع وأربعين [ وأربعمائة ] فأتاه أخوه ياقوتي في العساكر ، فسار بهم إلى الموصل ، وأقطع مدينة بلد لهزارسب بن بنكير ، فأجفل أهل البلاد إلى بلد ، ( فأراد العسكر نهبهم ، فمنعهم السلطان وقال : لا يجوز أن [ ص: 142 ] تعرضوا إلى بلد ) هزارسب . فلجوا وقالوا : نريد الإقامة . ( فقال السلطان لهزارسب : إن هؤلاء قد احتجوا بالإقامة ) ، فأخرج أهل البلد إلى معسكرك لتحفظ نفوسهم . ففعل ذلك وأخرجهم إليه ، فصار البلد بعد ساعة قفرا ، وفرق فيهم هزارسب مالا ، وأركب من يعجز عن المشي ، وسيرهم إلى الموصل ليأمنوا .
وتوجه السلطان إلى نصيبين ، فقال له هزارسب : قد تمادت الأيام ، وأرى أن أختار من العسكر ألف فارس أسير بهم إلى البرية ، فلعلي أنال من العرب غرضا ، فأذن له في ذلك ، فسار إليهم ، فلما قاربهم كمن لهم كمينين ، وتقدم إلى الحلل ، فلما رأوه قاتلوه ، فصبر لهم ساعة ، ثم انزاح بين أيديهم كالمنهزم ، فتبعوه ، فخرج عليهم الكمينان ، فانهزمت العرب ، وكثر فيهم القتل والأسر ، وكان قد انضاف إليهم جماعة من بني نمير أصحاب حران والرقة وتلك الأعمال ، وحمل الأسرى إلى السلطان ، فلما أحضروا بين يديه قال لهم : هل وطئت لكم أرضا ، وأخذت لكم بلدا . قالوا : لا ! قال : فلم أتيتم لحربي ؟ وأحضر الفيل فقتلهم ، إلا صبيا أمرد ، فلما امتنع الفيل من قتله عفا عنه السلطان .