الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 26 ] ذكر أحوال ملوك الروم

نذكر هاهنا أحوال الروم من عهد بسيل إلى الآن ، فنقول‏ : ‏ من عادة ملوك الروم أن يركبوا أيام الأعياد إلى البيعة المخصوصة بذلك العيد ، فإذا اجتاز الملك بالأسواق شاهه الناس وبأيديهم المداخن يبخرون فيها ، فركب والد بسيل وقسطنطين في بعض الأعياد ، وكان لبعض أكابر الروم بنت جميلة ، فخرجت تشاهد الملك ، فلما مر بها استحسنها ، فأمر من يسأل عنها ، فلما عرفها خطبها وتزوجها وأحبها ، وولدت منه بسيل وقسطنطين ، وتوفي وهما صغيران ، فتزوجت بعده بمدة طويلة نقفور ، فكره كل واحد منهما صاحبه ، فعملت على قتله ، فراسلت الشمشقيق في ذلك ، فقصد قسطنطينية متخفيا ، فأدخلته إلى دار الملك ، واتفقا وقتلاه ليلا ، وأحضرت البطارقة متفرقين وأعطتهم الأموال ودعتهم إلى تمليك الشمشقيق ، ففعلوا ، ولم يصبح وقد فرغت مما تريد ، ولم يجر خلف .

وتزوجت الشمشقيق وأقامت معه سنة ، فخافها واحتال عليها ، وأخرجها إلى دير بعيد ، وحمل ولديها معها ، فأقامت فيه سنة ، ثم أحضرت راهبا ، ووهبته مالا ، وأمرته بقصد قسطنطينية والمقام بكنيسة الملك ، والاقتصار على قدر القوت ، فإذا وثق به الملك ، وأراد القربان من يده ليلة العيد سقاه سما ، ففعل الراهب ذلك ، فلما كان ليلة العيد سارت ومعها ولداها ، ووصلت قسطنطينية في اليوم الذي توفي فيه الشمشقيق ، فملك ولدها بسيل ، ودبرت هي الأمر لصغره ، فلما كبر بسيل قصد بلد البلغار ، وتوفيت وهو هناك ، فبلغه وفاتها ، فأمر خادما له أن يدبر الأمور في غيبته .

ودام قتاله لبلغار أربعين سنة ، فظفروا به ، فعاد مهزوما وأقام بالقسطنطينية يتجهز للعود ، فعاد إليهم ، فظفر بهم وقتل ملكهم ، وسبى أهله وأولاده ، وملك بلاده ، ونقل أهلها إلى الروم ، وأسكن البلاد طائفة من الروم ، وهؤلاء البلغار غير الطائفة المسلمة ، فإن هؤلاء أقرب إلى بلد الروم من المسلمين بنحو شهرين ، وكلاهما يسمى بلغار .

[ ص: 27 ] وكان بسيل عادلا ، حسن السيرة ، ودام ملكه نيفا وسبعين سنة ، وتوفي ولم يخلف ولدا ، فملك أخوه قسطنطين ، وبقي إلى أن توفي ولم يخلف غير ثلاث بنات ، فملكت الكبرى وتزوجت أرمانوس ، وهو من أقارب الملك ، وملكته فبقي مدة ، وهو الذي ملك الرها من المسلمين‏ .

وكان لأرمانوس صاحب له يخدمه قبل ملكه ، من أولاد بعض الصيارف ، اسمه ميخائيل ، فلما ملك حكمه في داره ، فمالت زوجة قسطنطين إليه ، وعملا الحيلة في قتل أرمانوس ، فمرض أرمانوس فأدخلاه إلى الحمام كارها وخنقاه ، وأظهرا أنه مات في الحمام ، وملكت زوجته ميخائيل ، وتزوجته على كره من الروم .

وعرض لميخائيل صرع لازمه وشوه صورته ، فعهد بالملك بعده إلى ابن أخت له اسمه ميخائيل أيضا ، فلما توفي ملك ابن أخته وأحسن السيرة ، وقبض على أهل خاله وإخوته ، وهم أخواله ، وضرب الدنانير في هذه السنة ، وهي [ سنة ] ثلاث وثلاثين ، ثم أحضر زوجته بنت الملك ، وطلب منها أن تترهب وتنزع نفسها عن الملك ، فأبت ، فضربها وسيرها إلى جزيرة في البحر ، ثم عزم على القبض على البطرك والاستراحة من تحكمه عليه ، فإنه كان لا يقدر على مخالفته ، فطلب إليه أن يعمل له طعاما في دير ذكره بظاهر القسطنطينية ليحضر عنده ، فأجابه إلى ذلك ، وخرج إلى الدير ليعمل ما قال الملك ، فأرسل الملك جماعة من الروس والبلغار ، ووافقهم على قتله سرا ، فقصدوه ليلا وحصروه في الدير ، فبذل لهم مالا كثيرا ، وخرج متخفيا ، وقصد البيعة التي يسكنها ، وضرب الناقوس ، فاجتمع الروم عليه ، ودعاهم إلى عزل الملك فأجابوه إلى ذلك ، وحصروا الملك في دار ، فأرسل الملك إلى زوجته وأحضرها من الجزيرة التي نفاها إليها ، ورغب في أن ترد عنه فلم تفعل ، وأخرجته إلى بيعة يترهب فيها‏ .

ثم إن البطرك والروم نزعوا زوجته من الملك ، وملكوا أختا لها صغيرة ، واسمها تذورة ، وجعلوا معها خدم أبيها يدبرون الملك ، وكحلوا ميخائيل ، ووقعت الحرب [ ص: 28 ] بالقسطنطينية بين من يتعصب له وبين من يتعصب لتذورة والبطرك ، فظفر أصحاب تذورة بهم ، ونهبوا أموالهم .

ثم إن الروم افتقروا إلى ملك يدبرهم ، فكتبوا أسماء جماعة يصلحون للملك في رقاع ، ووضعوها في بنادق طين ، وأمروا من يخرج منها بندقة ، وهو لا يعرف باسم من فيها ، فخرج اسم قسطنطين ، فملكوه وتزوجته الملكة الكبيرة ، واستنزلت أختها الصغيرة تذورة عن الملك بمال بذلته لها ، واستقر في الملك سنة أربع وثلاثين [ وأربعمائة ] فخرج عليه فيها خارجي من الروم اسمه أرميناس ، ودعا إلى نفسه ، فكثر جمعه حتى زادوا على عشرين ألفا ، فأهم قسطنطين أمره ، وسير إليه جيشا كثيفا ، فظفروا بالخارجي وقتلوه ، وحملوا رأسه إلى القسطنطينية ، وأسر من أعيان أصحابه مائة رجل ، فشهروا في البلد ، ثم أطلقوا وأعطوا نفقة ، وأمروا بالانصراف إلى أي جهة أرادوا‏ .

التالي السابق


الخدمات العلمية