الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر قتل قدرخان صاحب سمرقند

قد ذكرنا قبل قدوم الملك سنجر مع أخيه السلطان محمد إلى بغداذ وعوده إلى خراسان ، فلما وصل إلى نيسابور خطب لأخيه محمد بخراسان جميعها ، ولما كان ببغداذ طمع قدرخان جبريل بن عمر ، صاحب سمرقند ، في خراسان لبعده عنها ، وجمع عساكر تملأ الأرض ، قيل : كانوا مائة ألف مقاتل فيهم مسلمون وكفار ، وقصد بلاد سنجر .

وكان أمير من أمراء سنجر ، اسمه كندغدي ، قد كاتب قدرخان بالأخبار ، وأعلمه مرض سنجر ، بعد عوده إلى بلاده ، وأنه قد أشفى على الهلاك ، وقوى طمعه بالاختلاف الواقع بين السلطانين بركيارق ومحمد ، وبشدة عداوة بركيارق لسنجر ، وأشار عليه [ ص: 477 ] بالسرعة مهما الاختلاف واقع وأنه متى أسرع ملك خراسان والعراق . فبادر قدرخان وأقدم ، وقصد البلاد ، فبلغ السلطان سنجر الخبر ، وكان قد عوفي ، فبادر وسار نحوه قاصدا قتاله ومنعه عن البلاد ، وكان من جملة من معه كندغدي المذكور ، وهو لا يتهمه بشيء مما فعل ، فوصل إلى بلخ في ستة آلاف فارس ، فبقي بينه وبين قدرخان نحو خمسة أيام ، فهرب كندغدي إلى قدرخان ، وحلف كل واحد منهما لصاحبه على الاتفاق والمناصحة ، وسار من عنده إلى ترمذ ، فملكها ، وكان الباعث للكندغدي على ما فعل ( حسده للأمير ) بزغش على منزلته .

ثم تقدم قدرخان ، لما تدانى العسكران أرسل سنجر يذكر قدرخان العهود والمواثيق القديمة ، فلم يصغ إلى قوله ، وأذكى سنجر العيون والجواسيس على قدرخان ، فكان لا يخفى عنه شيء من خبره ، فأتاه من أخبره أنه نزل بالقرب من بلخ ، وأنه خرج متصيدا في ثلاثمائة فارس ، فندب سنجر ، عند ذلك ، الأمير بزغش لقصده ، فسار إليه ، فلحقه وهو على تلك الحال ، فقاتله ، فلم يصبر من مع قدرخان ، فانهزموا ، وأسر كندغدي وقدرخان ، وأحضرهما عند سنجر ، فأما قدرخان فإنه قبل الأرض واعتذر ، فقال له سنجر : إن خدمتنا ، أو لم تخدمنا ، فما جزاؤك إلا السيف ، ثم أمر به فقتل .

فلما سمع كندغدي الخبر نجا بنفسه ، ونزل في قناة ، ومشى فيها فرسخين تحت الأرض ، على ما به من النقرس ، وقتل فيها حيتين عظيمتين ، وسبق أصحابه إلى مخرجها ، وسار منها في ثلاثمائة فارس إلى غزنة .

وقيل : بل جمع سنجر عساكر كثيرة ، والتقى هو وقدرخان ، ( وجرى بينهما مصاف ، وقتال عظيم ، أكثر فيه القتل فيهم ، فانهزم قدرخان ) وعسكره ، وحمل أسيرا إلى سنجر ، فقتله ، وحصر ترمذ ، وبها كندغدي ، فطلب الأمان ، فأمنه سنجر ، ونزل إليه ، وسلم ترمذ ، فأمره سنجر بمفارقة بلاده ، فسار إلى غزنة ، فلما وصل إليها أكرمه صاحبها علاء الدولة ، وحل عنده المحل الكبير .

[ ص: 478 ] واتفق أن صاحب غزنة عزم على قصد أوتان ، وهي جبال منيعة ، على أربعين فرسخا من غزنة ، وقد عصى عليه فيها قوم ، وتحصنوا بمعاقلها ، ووعور مسالكها ، فقاتلهم عسكر علاء الدولة ، فلم يظفروا منهم بطائل ، فتقدم كندغدي منفردا عنهم فأبلى بلاء حسنا ، ونصر عليهم ، وأخذ غنائمهم ، وحملها إلى علاء الدولة ، فلم يقبل منها شيئا ، ووفرها عليه ، فغضب العسكر ، وحسدوه على ذلك ، وعلى قربه من صاحبهم ، ونفاقه عليه ، فأشاروا بقبضه ، وقالوا : إنا لا نأمن أن يقصد بعض الأماكن فيفعل في أمر الدولة ما لا يمكن تلافيه . فقال : قد تحققت قصدكم ، ولكن بمن أقبض عليه ؟ فإني أخاف أن آمركم بالقبض عليه ، فينالكم منه ما تفتضحون به ، فقالوا : الصواب أن توليه ولاية ويقبض عليه إذا سار إليها . فولاه حصنين جرت عادته أن يسجن فيهما من يخاف جانبه ، فسار إليهما .

فلما قاربهما عرف ما يراد منه ، فأحرق جميع ماله ، ونحو جماله ، وسار جريدة ، وكان في مدة مقامه بغزنة يسأل عن الطرق وتشعبها ، فإنه ندم على قصد تلك الجهة ، فلما سار سأل راعيا عن الطريق التي يريدها ، فدله ، فأخذه معه خوفا أن يكون قد غره ، ولم يزل سائرا إلى أن وصل إلى قريب هراة ، فمات هناك ، وهو من مماليك تتش بن ألب أرسلان الذي كحله أخوه ملكشاه ، وسجنه بتكريت ، وقد تقدم ذكر حادثته .

التالي السابق


الخدمات العلمية