( وإذا ) فالزيادة نوعان منفصلة متولدة [ ص: 54 ] منها كالولد والعقر ، ومتصلة كالسمن وانجلاء البياض عن العين ، وفي الكتاب بدأ ببيان الزيادة المتصلة ، ولكن الأولى أن يبدأ ببيان الزيادة المنفصلة فيقول : هذه الزيادة تحدث أمانة في يده عندنا حتى لو هلكت من غير صنعه لم يضمن قيمتها عندنا . غصب الرجل جارية تساوي ألف درهم فازدادت عنده
( وقال ) رحمه الله تعالى تحدث مضمونة ; لأنها لما تولدت من أصل مضمون بيد متعدية فتحدث مضمونة كزوائد الصيد المخرج من الشافعي الحرم ، وهذا لأن المتولد من الأصل يكون بصفة الأصل ، والأصل مضمون عليه فكذلك ما تولد منه ، ألا ترى أن الزيادة مملوكة للمغصوب منه كالأصل . ( ثم ) له في بيان المذهب طريقان :
( أحدهما ) أن الزيادة مغصوبة بمباشرة من الغاصب ; لأن حد الغصب الاستيلاء على مال الغير بإثبات اليد لنفسه بغير حق ، وقد كانوا في الجاهلية يتملكون بهذه اليد ، ويسمونه غصبا ، فالشرع أبطل حكم الملك بها في كل محترم ، وأثبت الضمان ، وبقي حكم الملك بها في كل مباح كالصيد ، ثم إنما يملك الصيد بإثبات اليد عليه فكذلك يجب الضمان بإثبات اليد عليه ، وهو مثبت يده على الولد حتى لو نازعه فيه إنسان كان القول قوله .
( والثاني ) هو أنه غاصب للولد تسبيبا ، فإن غصب الأم وإمساكها إلى وقت الولادة سبب لحصول الولد في يده وهو معتاد ; لأن أصحاب السوائم يمسكون الأمهات لتحصيل الأولاد ، وهذا تسبيب هو فيه متعد فينزل منزلة المباشرة ; لأن المال يضمن بالإتلاف تارة وبالغصب أخرى ، وفي الإتلاف المسبب إذا كان متعديا يجعل كالمباشر في حكم الضمان كحفر البئر ووضع الحجر في الطريق فكذلك في الغصب . وحجتنا في ذلك أن وجوب ضمان الغصب لا يكون إلا باعتبار تحقق الغصب ; لأنه سبب ; ولهذا يضاف إليه الحكم ، ولا يثبت بدون السبب ، ولم يوجد الغصب في الزيادة تسبيبا ولا مباشرة ; لأن حد الغصب الموجب للضمان الاستيلاء على مال الغير بإثبات اليد لنفسه على وجه تكون يده مفوتا ليد المالك ; لأن الضمان واجب بطريق الجبران ، فلا يجب إلا بتفويت شيء عليه ، وليس في الغصب تفويت العين ، فعرفنا أن وجوب الضمان باعتبار تفويت اليد عليه ، وذلك غير موجود في الولد ; لأن التفويت بإزالة يده عما كان في يده أو بإزالة تمكنه من أخذ ما لم يكن في يده ، وما كان الولد في يد المالك قط ، ولا زال تمكنه من أخذه لحصوله في دار الغاصب ما لم يمنعه الغاصب منه ، فلا يكون مضمونا عليه لانعدام سبب الضمان حتى يطالبه بالرد ، فإذا منعه يتحقق التفويت بقصر يده عنه بالمنع ، فيكون مضمونا عليه كالثوب إذا هبت [ ص: 55 ] به الريح وألقته في حجره ، وهذا بخلاف الاستيلاء الموجب للملك ; لأن الملك حكم مقصود على المحل فيتم سببه بإثبات اليد على المحل ، والضمان جبران لحق المالك ، فلا يتم سببه إلا بتفويت شيء عليه ، وبخلاف ضمان صيد الحرم ; لأن ذلك ضمان إتلاف معنى الصيدية فيه ، فإنه بالحرم أمن الصيد ، ومعنى الصيدية في تنفيره واستيحاشه وبعده عن الأيدي ، فإثبات اليد عليه يكون إتلافا لمعنى الصيدية فيه حكما ، وقد تحقق ذلك في الولد بإثبات اليد عليه .
فأما الأموال فمحفوظة بالأيدي ، فلا يكون إثبات اليد على المال إتلافا لشيء على المالك .
يوضح الفرق أن الحق في صيد الحرم للشرع ، والشرع يطالبه برد الأصل مع ولده إلى مأمنه ، فإنما وجد المنع منه بعد الطلب ، وذلك سبب الضمان . وعلى هذا الطريق يقول : إذا الحرم لا يضمن ، وعلى الطريق الأول هو ضامن ، ولا وجه لإثبات حكم الضمان في الزيادة بتولدها من الأصل المضمون ; لأن الضمان ليس في العين بل هو في ذمة الغاصب ، وإنما توصف العين به مجازا . كما يقال : فلان مغصوب عليه ، والغصب صفة للغاصب بخلاف الملك ; لأنه وصف للمحل ، فإنه يوصف بأنه مملوكه حقيقة فيتعدى ذلك إلى الولد ، وإن هلك الولد قبل تمكنه من الرد إلى فهو ضامن لقيمته لوجود التعدي منه على الأمانة كما لو باع المودع الوديعة . باع الغاصب الولد وسلمه أو أتلفه
( فإن قيل : ) فليس في البيع والتسليم تفويت يد المالك في الولد . ( قلنا : ) بل فيه تفويت يده ; لأنه كان متمكنا من أخذه من الغاصب ، وقد زال ذلك ببيعه وتسليمه ، فلوجود التفويت من هذا الوجه يكون ضامنا ، فأما الزيادة المتصلة فهي أمانة في يد الغاصب عندنا حتى لو ضمن قيمتها وقت الغصب ، ولا يضمن الزيادة ، وعند هلكت الجارية بعد الزيادة رضي الله تعالى عنه مضمونة كالزيادة المنفصلة عنده ، ويزعم أن كلامه هنا أظهر ، فإن الزيادة تصير مغصوبة بالوقوع في يد الغاصب ، ولأن الزيادة لا تنفصل عن الأصل فمن ضرورة كون يده على الأصل يد غصب أن تكون على الزيادة يد غصب أيضا ، ولكنا نقول : سبب وجوب الضمان في الأصل ليس هو يد الغصب بل اليد الغاصبة ; لأن ليد الغصب حكم الغصب ، وإنما يحال بالضمان على أصل السبب لا على حكمه فأصل السبب اليد الغاصبة المفوتة ليد المالك ، ولم يوجد ذلك في الزيادة ، وإن منعها بعد الطلب ففي إحدى الروايتين الزيادة تصير مضمونة بالمنع ; لأن قصر يد المالك عنها يثبت بالمنع ، وفي الرواية الأخرى لا تصير مضمونة ; لأن المطالبة بالرد في حق الزيادة لا تتحقق منفردة عن الأصل إذ لا يتصور [ ص: 56 ] ردها بدون الأصل ، ولا معتبر بهذا المنع في حق الأصل ; لأن الأصل مضمون بدون هذا المنع فلهذا لا يضمن الزيادة المتصلة بالمنع بعد الطلب بخلاف الزيادة المنفصلة . الشافعي
وعلى هذا الاختلاف لو لم يضمن الغاصب إلا قيمتها وقت الغصب عندنا ، وعند ازدادت قيمتها من غير زيادة في بدنها ، ثم هلكت يضمن قيمتها وقت الهلاك ; لأن من أصله أن سبب الضمان إثبات اليد ، واليد مستدام ، والأصل أن ما يستدام فإنه يعطى لاستدامته حكم إنشائه ، فبهذا الطريق يصير كالمجدد للغصب عند الهلاك . وعندنا سبب وجوب الضمان تفويت يد المالك ، وذلك بابتداء الغصب فتعتبر قيمتها عند ذلك ، فإن الشافعي فله الخيار إن شاء ضمن المشتري قيمتها يوم قبض العين ، وإن شاء ضمن الغاصب ; لأن المشتري متعد بقبضها لنفسه على طريق التملك ، وفي هذا القبض تفويت يد المالك حكما على ما بينا أنه كان متمكنا من استردادها من الغاصب ، وقد زال ذلك بقبض المشتري على طريق التملك لنفسه فيضمن قيمتها حال قبضه ، وذلك ألفا درهم بمنزلة ما لو غصبها غاصب من الأول بعد الزيادة ، فإن للمالك أن يضمن الغاصب الثاني قيمتها وقت غصبه . وفيه طريقان : أحدهما ما بينا ، والثاني أن المولى باختياره تضمين الغاصب الثاني يكون مبرئا للغاصب الأول ; ولهذا لا يكون له أن يضمنه بعد ذلك ، وبهذا الإبراء تصير يده يد المالك ، والغاصب الثاني مفوت لهذه اليد ، فإذا صارت كيد المالك كان هو ضامنا بتفويته يد المالك حكما ، فإن اختار تضمين البائع ، فإن شاء ضمنه قيمتها وقت الغصب ألف درهم ، وإن شاء ضمنه قيمتها وقت البيع والتسليم ألفي درهم ، ولم يذكر فيه خلافا في الكتاب . باعها وسلمها بعد ما صارت قيمتها ألفين بالزيادة المتصلة فهلكت عند المشتري ، ثم جاء صاحبها
( وروى ) الحسن عن أبي حنيفة عن ، وابن سماعة محمد عن رحمهم الله أنه ليس له أن أبي حنيفة . يضمن الغاصب وقت البيع والتسليم قيمتها
وجه ظاهر الرواية ، وهو قولهما أن الزيادة حصلت في يد الغاصب أمانة ، وقد تعدى عليها بالبيع والتسليم فيكون ضامنا لها بزيادتها كما لو كانت الزيادة منفصلة ، وكما لو قتلها بعد حدوث الزيادة ، ولأنه وجد من الغاصب سببان موجبان للضمان الغصب والتسليم بحكم البيع ، فللمالك أن يضمنه بأي الشيئين شاء كما لو قتلها بعد الغصب .
وتحقيق هذا أن البيع والتسليم استهلاك ، ألا ترى أن من ، فإن القاضي يقضي بالملك له ، كما لو شهدوا بالملك له ، فهو بالبيع والتسليم باشر سببا لو أثبته المشتري بالبينة قضى القاضي بالملك له فيكون ذلك استهلاكا [ ص: 57 ] للملك على المغصوب منه حكما ، والاستهلاك بعد الغصب يتحقق ، ويكون سببا للضمان كالاستهلاك بالقتل . ادعى عينا في يد إنسان فأقام البينة أن فلانا باعه وسلمه منه إليه
وجه قول رحمه الله أن ضمان البيع والتسليم ضمان غصب ، والغصب لا يتحقق في المغصوب لوجهين : أبي حنيفة
( أحدهما ) أن الغصب الموجب للضمان لا يكون إلا بتفويت يد المالك ، والتفويت بعد التفويت من واحد لا يتحقق .
( والثاني ) أن الأسباب مطلوبة لأحكامها ، وتكرار الغصب من واحد في محل واحد غير مفيد شيئا ، فلا يعتبر كتكرار البيع بثمن واحد ، وإنما قلنا : إن ضمان البيع والتسليم ضمان غصب ; لأن ملك المغصوب منه باق بعد بيع الغاصب كما بعد غصبه .
والاستهلاك إما أن يكون بتفويت العين حقيقة أو بتفويت الملك فيه حكما ، وذلك غير موجود . والدليل عليه أن الحر لا يضمن بالبيع والتسليم كما لا يضمن بالغصب ، والحر يضمن بالإتلاف ، وكذلك العقار عند أبي حنيفة آخرا رحمهما الله لا يضمن بالبيع والتسليم كما لا يضمن بالغصب ، وهو مضمون بالإتلاف . وأبي يوسف
( فإذا ) ثبتت هذه القاعدة فنقول : السبب الثاني لا يمكن اعتباره في الأصل لما قلنا : إن الغصب بعد الغصب لا يتحقق مع بقاء حكم الأول ، ولا وجه لإبطال حكم الضمان الثابت بالغصب الأول بفعل الغاصب ; لأن المسقط للضمان عنه نسخ فعله بإعادته إلى يد المالك لا اكتساب غصب آخر ، ولا وجه لاعتبار السبب الثاني في الزيادة ; لأن الزيادة تابعة للأصل ، فلا يثبت الحكم فيها إلا بثبوته في الأصل ، ولأن الزيادة المتصلة لا تفرد بالغصب ، فلا تفرد بضمان الغصب ، ولأنه لما ضمن الأصل بالغصب ملك الأصل بزيادته من ذلك الوقت فتبين أنه باع ملك نفسه ; ولهذا نفذ بيعه هنا ، وبيع ملك نفسه لا يكون موجبا للضمان عنه ، وهذا بخلاف ما إذا قتلها ; لأن ذاك ضمان إتلاف ، والزيادة تفرد بالإتلاف ، ولأن اعتبار السبب الثاني هناك مفيد في حق الأصل ; لأن الضمان بالقتل يجب مؤجلا على العاقلة وبالغصب يجب على الغاصب ، فيجب اعتبار السبب الثاني في حق الأصل لكونه مفيدا ، ثم يعتبر في حق الزيادة تبعا للأصل إلا أنه إذا ضمن الأصل بالقتل لا يملكها ; لأن ضمان القتل لا يوجب الملك ، فلا يتبين به أن الزيادة كانت مملوكة له ، ولم يذكر هنا أن ، ذكر في كتاب الرجوع عن الشهادات أنه يضمن قيمتها زائدة ، فظن بعض المحققين من أصحابنا رحمهم الله أن ذلك الجواب قولهم جميعا ، وجعل يفرق المغصوبة لو كانت دابة فاستهلكها الغاصب بعد الزيادة المتصلة هل يضمن قيمتها زائدة رحمه الله تعالى أن الاستهلاك بعد الغصب يتحقق في الأصل [ ص: 58 ] فيكون موجبا للضمان ، وأما الغصب بعد الغصب فلا يتحقق . لأبي حنيفة
قال رضي الله عنه : والأصح عندي أنه لا فرق في الفصلين عند رحمه الله ، فإنه كما لم يذكر الخلاف ثمة لم يذكر هنا قال : وقد رأيت في بعض النوادر بيان الخلاف في أبي حنيفة أنه لا يضمن قيمتها زائدة ، وهذا لما بينا أن السبب إنما يعتبر إذا كان مفيدا ، وحكم الاستهلاك في الدواب ، وحكم الغاصب سواء ; لأنه يوجب الضمان على المستهلك حالا ، ويملك المضمون به ، فالاستهلاك وإن تحقق ، فلا فائدة في اعتباره في حق الأصل بخلاف القتل في الآدمي ، فإن حكم ضمان القتل مخالف لحكم ضمان الغصب فكان اعتبار السبب الثاني مفيدا ، وهذا بخلاف صيد الشاة إذا ذبحها الغاصب وأكلها بعد الزيادة الحرم إذا باعها ، وسلمها بعد الزيادة ; لأنا نثبت بهذا الكلام أن البيع والتسليم لا يكون سببا للضمان بعد الغصب ، وهناك الزيادة كانت مضمونة عليه قبل هذا إلا أن تصير مضمونة بالبيع والتسليم ، وإن اختار المغصوب منه تضمين المشتري بطل البيع ، ورجع بالثمن على الغاصب ; لأن استرداد القيمة منه كاسترداد العين ، ولأن ملك العين لم يسلم للمشتري بالبيع ، وإنما سلم له بضمان القيمة ، فلا يسلم الثمن للبائع أيضا ، فلهذا استرد الثمن من البائع .