الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو أن أمة أبقت من مولاها فالتحقت بأرض الحرب ثم أصابها المسلمون فاشتراها رجل منهم فوطئها فولدت له ثم جاء مولاها ، فإنه يأخذها وعقرها وقيمة ولدها في قول أبي حنيفة ، وكذلك لو كان الواطئ اشتراها من المشركين وعندهما أم ولد لمن استولدها ، ولا سبيل لمولاها عليها ، وهذا بناء على أن الآبق إلى دار الحرب لا يملكه المشركون بالأخذ في قول أبي حنيفة ; لأنهم لم يحرزوه لكونه في يد نفسه ، وهي يد محترمة ، فإذا لم يملكها المشتري منهم ولا المسلمون بالاستيلاء أيضا ، فمن اشتراها فوطئها فهو بمنزلة المغرور ; لأنه في الاستيلاء اعتمد ظاهر الشراء ، وولد المغرور حر [ ص: 30 ] بالقيمة ، وللمستحق أن يأخذ الجارية وعقرها وقيمة ولدها ، وبه قضى عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما وعندهما هم يملكون الآبق إليهم بالأخذ ، فإذا ملكوها ملكها المشتري أيضا ، وقد استولدها فكانت أم ولد له ، ولا حق للمولى في استردادها ، والجعل واجب في رد المدبر وأم الولد ; لأنهما مملوكان يستكسبهما بمنزلة القن .

( فإن قيل : ) فأين ذهب قولكم إنه يستوجب الجعل بإحياء المالية في أم الولد خصوصا عند أبي حنيفة ( قلنا : ) نعم ليس له فيها مالية باعتبار الرقبة ، ولكن له مالية باعتبار كسبها بخلاف المكاتب ، فإنه أحق بمكاسبه ، فلا يكون راده محييا للمولى مالية باعتبار الرقبة ولا باعتبار الكسب ، فإن مات المولى قبل أن يوصلهما الراد إليه فلا جعل له ; لأنهما عتقا بموته ، وراد الحر لا يستوجب الجعل ، وكذلك إن كان على المدبر سعاية بأن لم يكن للمولى مال سواه فرده على الورثة لم يستوجب الجعل ; لأن المستسعى بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة وعندهما هو حر عليه دين ، ولا جعل لراد المكاتب أو الحر ، فأما إذا وصلهما إلى المولى فقد تقرر حقه في الجعل ، فلا يسقط بموت المولى وعتقهما بعد ذلك ، وإن كان الآبق بين رجلين أثلاثا فالجعل بينهما على قدر أنصبائهما ، وجوبه باعتبار إحياء ماليتهما ، والمالية لصاحب الكثير أكثر منها لصاحب القليل ، وراد الصغير إذا كان آبقا يستوجب الجعل كراد الكبير ، غير أنه إن جاء به من مسيرة سفر فله أربعون درهما ، وإن جاء به مما دون ذلك يرضخ له على قدر عنائه ، وعناؤه في رد الكبير أكثر منه في رد الصغير ، فالرضخ يكون بحسب ذلك .

وإذا انتهى الرجل بالعبد الآبق إلى مولاه فلما نظر إليه أعتقه فالجعل واجب عليه ; لأنه صار قابضا له بإعتاقه ، ألا ترى أن المشتري إذا أعتق المبيع قبل القبض يصير به قابضا ، وكذلك إن باعه مولاه من الذي أتاه به ; لأنه صار قابضا له لما نفذ تصرفه فيه بالتمليك من غيره ، ولأن سلامة الثمن له باعتبار رد هذا الراد ، فيكون بمنزلة سلامة العين له ، وإن سلمه الراد إلى مولاه فأبق منه ، ثم جاء به رجل آخر من مسيرة ثلاثة أيام فعلى الولي جعل تام لكل واحد منهما ; لأن السبب وهو إحياء المالية بالرد على المولى فقد تقرر من كل واحد منهما بكماله ، وإن كان الأول أدخله المصر ، ثم أبق منه قبل أن ينتهي به إلى مولاه فالجعل للآخر إن جاء به من مسيرة ثلاثة أيام ، ويرضخ له إن كان دون ذلك ، ولا شيء للأول ; لأن تمام السبب بإيصاله إلى المولى ، والأول ما أوصله إلى المولى فانتقص السبب في حقه بإباق العبد منه قبل تمامه بالإيصال إلى المولى فلا جعل له ، وأما الثاني فقد [ ص: 31 ] أتم السبب بإيصاله إلى المولى فيستوجب الجعل بحسب عمله ، وإن أخذه الأول مع الثاني ورداه من مسيرة يوم فالأول نصف الجعل تاما ، ويرضخ للثاني على قدر عنائه لأنهما تمما السبب بإيصاله إلى المولى ، إلا أن الأول قد ضم فعله الثاني إلى الفعل الأول ، وباعتبار هذا الضم يكون رادا له من مسيرة سفر فله نصف الجعل تاما ، والثاني إنما رده من مسيرة يوم فيجعل في حقه كأنهما رداه من مسيرة يوم فلهذا استحق الرضخ على قدر عنائه ، وإن رداه من مسيرة ثلاث فالجعل بينهما سواء ; لأنهما استويا في سبب الاستحقاق للجعل ، وهو الإيصال إلى المولى بعد الرد من مسيرة ثلاث فيستويان في استحقاق الجعل ، وإن كان أحد الرادين عبدا محجورا أو مأذونا فهو مثل الحر في استحقاق الجعل ; لأن هذا اكتساب للمال ، والعبد غير محجور عن اكتساب المال بطريق هو محض منفعة في حق المولى ، وإن كان العبد الآبق لمكاتب أو عبد تاجر فعليهما الجعل للراد ; لأن حقهما في كسبهما بمنزلة حق الحر فيما يرجع إلى ملك التصرف ، والراد أحيا مالية العبد بالرد لهما فيستوجب الجعل عليهما ، وكذلك إن كان الآبق لصبي فالجعل في ماله يؤدي عنه أبوه أو وصيه ; لأن منفعة إحياء المالية حصلت له .

( عبد ) جنى جناية ثم أبق فجاء به رجل فالمولى مخير بين الدفع والفداء إذا كان قبل إباقه ، فإن اختار الفداء فالجعل على مولاه ; لأنه طهره عن الجناية باختياره ، وتبين أن الراد عمل له في إحياء ماليته ، وإن اختار دفعه إلى أصحاب الجناية فالجعل على أصحاب الجناية ; لأنه تبين أن الراد أحيا حقهم ، فإن نفس العبد استحق لهم بالجناية إلا أن يختار المولى الفداء ; ولهذا لو هلك العبد قبل أن يختار المولى شيئا بطل حقهم فتبين باختيار الدفع أن الراد أحيا حقهم فيستوجب الجعل عليهم ، وله أن يحبسه عنهم حتى يستوفى الجعل كما كان له أن يحبسه عن المولى .

( عبد ) أبق إلى بعض البلدان فأخذه رجل فاشتراه منه رجل وجاء به فلا جعل له ; لأنه إنما رده لنفسه ، فإن المشتري قد يكون قاصدا إلى تملك المشترى فيكون هو غاصبا في حق المولى لا عاملا له ، وكذلك إن وهبه أو أوصى له أو ورثه ، فإن أشهد حين اشتراه أنه إنما يشتريه ليرده على صاحبه ; لأنه لا يقدر عليه إلا بالشراء فله الجعل له ; لأنه بهذا الإشهاد أظهر أنه يعمل للمولى في الرد ، ولكنه الطريق الذي يمكنه فيستوجب ، ولا يرجع على المولى بما أدى من الثمن قل ذلك أو كثر ; لأنه متبرع في ذلك كما كان متبرعا فيما ينفق عليه بغير أمر القاضي ، وكذلك إن كان أبق إلى دار الحرب ففي حق الراد هو والمأخوذ في دار الإسلام سواء ، وإن [ ص: 32 ] أخذ الآبق رجل فجاء به ليرده على مولاه فوجده قد مات قال : له الجعل في تركته ; لأن وارثه أو وصيه يخلفه بعد موته فالرد عليه كالرد على المولى في حياته ، وإذا استوجب الجعل عليه كان ذلك دينا في تركته كسائر الديون ، فإن كان عليه دين يحيط بماله فالراد أحق بإمساك العبد حتى يعطى الجعل ، فإن لم يكن له مال غيره بيع العبد ، ويبدأ بالجعل له من ثمنه ، ثم يقسم الباقي بين الغرماء لأن حق الغرماء في ماليته إنما ثبت من جهة الميت ، وقد كان الراد أحق به من الميت ما لم يستوف الجعل ، فكذا يكون هو أحق به من غرماء الميت أيضا ، فإن كان الذي جاء به وارث الميت وقد أخذه ، وسار به ثلاثة أيام في حياته وأوصله إلى المصر فمات المولى قبل أن يرده عليه ، وليس الوارث الراد في عياله فله الجعل في قول أبي حنيفة ومحمد ، وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا جعل له ; لأن استحقاق الجعل إنما يكون بالإيصال إلى المالك ، وكذا لو أبق قبل أن يوصله إلى المالك ، فلا جعل له ، والإيصال هنا لم يوجد قبل الموت ، وبعد الموت لم يصلح سببا لوجوب الجعل له ; لأنه شريك فيه ، ومن عمل في شيء هو فيه شريك لا يستوجب الأجر بالعقد ، وإن شرط ذلك في العقد فهنا أولى أن لا يستوجب .

وجه قولهما أن الراد إنما يستحق الجعل بعمله في الرد ، وقد تم ذلك في حياة المورث قبل أن تثبت له الشركة فيه ، إلا أن إيصاله إلى المولى شرط ، وعند وجوده يستحق الأجر بعمله لا بما هو شرط ، والشرط يتحقق مع الشركة في المحل ، وإنما الذي لا يتحقق تسليم العمل إلى غيره فيما هو شريك فيه ، وقد صار العمل هنا مسلما إلى المولى باتصاله بملكه ، وقد وجد الشرط بالرد على ورثته فيستوجب الجعل . يوضحه أنه بإحياء المالية يستوجب الجعل ، وقد تحقق هذا حتى لو كان على الميت دين أو أوصى بوصية ينفذ من ذلك ، فيكون هذا بمنزلة ما لو رده عليه في حياته ، ولم يأخذ الجعل منه حتى مات ، وإذا جاء بالآبق من مسيرة ثلاثة أيام وهو لا يساوي أربعين درهما ففي قول أبي يوسف الأول له الجعل أقل من قيمته بدرهم ، وهو قول محمد ، وفي قول أبي يوسف الآخر رحمهما الله له الجعل تاما .

وجه قوله الأول أن وجوب الجعل باعتبار إحياء المالية للمولى ، فلا بد من اعتبار مقدار المالية التي حييت له ، ثم الراد مأذون من جهة المولى في إيصال المنفعة إليه لا في إلحاق الضرر به وإيجاب المال لنفسه عليه ، فإذا كان قيمة العبد درهما كان في إيجاب الأربعين على المولى ضرر بين ، فينبغي أن يوجب له من الجعل بقدر ما يظهر فيه منفعة عمله للمولى ، وذلك أن ينقص من قيمته درهم ; لأن ما دون الدرهم [ ص: 33 ] من الكسور لا يجوز اعتباره شرعا . وجه قوله الآخر أن وجوب الجعل للراد عرف شرعا باتفاق الصحابة ، وقد قدروه بأربعين درهما من غير أن يعرضوا لقيمة العبد ، وما ثبت من التقدير شرعا يجب اعتباره ، وكان عمل الراد هنا في إيجاب جعل مقدر له بمنزلة عقد باشره مع المولى . فكما يستحق هناك جميع المسمى ، ولا ينظر إلى قيمة العبد فكذلك هنا يوضحه أن مالية رقبته ، وإن كانت دون الأربعين فمالية كسبه الذي يحصل للمولى قد تزيد عليه ، وقد بينا أن ذلك يعتبر لإيجاب الجعل ابتداء فلأن يعتبر لتكميل الجعل كان أولى ، وإذا كان على العبد دين فجعله على مولاه إذا أراد ذلك بأن يقضى ما على العبد من الدين ، وإن أبى بيع العبد واستوفى صاحب الجعل جعله ، وكان ما بقي من الثمن لأصحاب الديون ، وهذا وما تقدم - مما إذا كان على العبد دين جناية - سواء ; لأن المستحق هناك الدفع بالجناية ، وهنا البيع في الدين .

التالي السابق


الخدمات العلمية