الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو ارتهنه فقبضه ثم أقر الراهن أنه جنى قبل الرهن جناية ادعى بها ففيها قولان : أحدهما أن القول قول الراهن لأنه أقر بحق في عنق عبده ولا تبرأ ذمته من دين المرتهن وقيل يحلف المرتهن ما علم فإذا حلف كان القول في إقرار الراهن بأن عبده جنى قبل أن يرهنه واحدا من قولين : أحدهما أن العبد رهن ولا يؤخذ من ماله شيء وإن كان موسرا لأنه إنما أقر في شيء واحد بحقين لرجلين أحدهما من قبل الجناية والآخر من قبل الرهن وإذا فك من الرهن وهو له فالجناية في رقبته بإقرار سيده إن كانت خطأ أو شبه عمد لا قصاص وإن كانت عمدا فيها قصاص لم يقبل قوله على العبد إذا لم يقر بها ، والقول الثاني أنه إذا كان موسرا أخذ من السيد الأقل من قيمة العبد أو أرش الجناية فيدفع إلى المجني عليه لأنه يقر بأن في عنق عبده حقا أتلفه على المجني عليه برهنه إياه وكان كمن أعتق عبده وقد جنى وهو موسر أو أتلفه أو قتله فيضمن الأقل من قيمته أو أرش الجناية وهو رهن بحاله وإنما أتلف على المجني عليه لا على المرتهن ، وإن كان معسرا فهو رهن بحاله [ ص: 94 ] ومتى خرج من الرهن وهو في ملكه فالجناية في عنقه وإن خرج من الرهن ببيع ففي ذمة سيده الأقل من قيمته أو أرش جنايته ( قال المزني ) قلت أنا : وهذا أصحها وأشبهها بقوله لأنه هو والعلماء مجمعة أن من أقر بما يضره لزمه ومن أقر بما يبطل به حق غيره لم يجز على غيره ومن أتلف شيئا لغيره فيه حق فهو ضامن بعدوانه ، وقد قال إن لم يحلف المرتهن على علمه كان المجني عليه أولى به منه وقد قال الشافعي بهذا المعنى لو أقر أنه أعتقه لم يضر المرتهن فإن كان موسرا أخذت منه قيمته . فجعلت رهنا مكانه ولو كان معسرا بيع في الرهن ( قال ) ومتى رجع إليه لأنه مقر أنه حر " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : صورة هذه المسألة في رجل رهن عبده رجلا فادعى أجنبي أن العبد المرهون جنى عليه قبل الرهن جناية ، فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يدعي جناية عمد توجب القود .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يدعي جناية خطأ توجب المال .

                                                                                                                                            فإن ادعى جناية عمد توجب القود فالدعوى مسموعة على العبد دون السيد الراهن ودون المرتهن ولأن الدعوى تسمع على من ينفذ إقراره بها والعبد هو الذي ينفذ إقراره بها دون سيده ومرتهنه ، فإذا سمعت الدعوى على العبد فإن أنكرها فالقول قوله مع يمينه ، وهو رهن بحاله فإن اعترف بها السيد بعد إنكار العبد ويمينه لم يكن لاعترافه تأثير .

                                                                                                                                            وإن اعترف العبد بالجناية وأقر بها كان قوله مقبولا فيها سواء اعترف السيد أو أنكر لارتفاع التهمة عنه في وجوب القود عليه .

                                                                                                                                            فإذا ثبت إقراره بها فلصاحب الجناية ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يعفو عنه ويبرئه منها ، فيكون رهنا بحاله : لأن جناية العمد لا تمنع من جواز رهنه .

                                                                                                                                            والحالة الثانية : أن يقتص منه ، فإن كان القصاص في طرف من أطرافه كان رهنا بحاله ، وإن كان في نفسه فقد بطل الرهن لفواته .

                                                                                                                                            والحالة الثالثة : أن يعفو عن القصاص عنه إلى مال ، فله ذلك لثبوت الجناية له ، فإن قيل : إقرار العبد بالمال غير مقبول على سيده فلم حكمتم في المال بإقراره ؟ قيل : لم يكن إقراره بالمال ، وإنما تفرع عنه المال فصار كالمحجور عليه بالسنة لا يقبل إقراره في ماله .

                                                                                                                                            ولو أقر بجناية عبد فاختار صاحبها المال وجب في ماله وإذا كان كذلك فإن كان أرش [ ص: 95 ] الجناية محيطا بقيمته بيع جميعه فإذا بيع بطل الرهن ، وإن كان أرش الجناية أقل من قيمته بيع منه ، بقدر الجناية وكان ما بقي منه رهنا مكانه ولأنه لما لم تكن جنايته مانعة من جواز رهنه لم يكن بيع بعضه فيها مبطلا لرهن بقيته . . فهذا حكم الجناية إذا كانت موجبة للقود وليست مسألة الكتاب وإنما وجب تقديمها لاشتمال التقسيم عليها وقرب الكلام فيها .

                                                                                                                                            فصل : وإذا ادعى جناية خطأ أو عمدا توجب المال فهي مسموعة على السيد دون العبد : لأن الذي ينفذ إقراره بها هو السيد دون العبد .

                                                                                                                                            وإذا كان كذلك فلا يخلو حال الراهن والمرتهن من أحد أربعة أقسام :

                                                                                                                                            القسم الأول : أن يصدقه الراهن والمرتهن جميعا ، فيكون الرهن باطلا على الصحيح من المذهب ، لأن رهن الجاني خطأ لا يصح ، وقد ثبتت جنايته بتصديق الراهن وبطل حكم الرهن بتصديق المرتهن .

                                                                                                                                            فعلى هذا إن كان ارتهان العبد مشروطا في بيع ففي بطلان البيع قولان ثم الراهن بالخيار بين أن يفديه وبين أن يمكن من بيعه ، فإن مكن من بيعه ولم يفده من ماله نظر في الجناية ، فإن كان أرشها مثل قيمته فأكثر ، بيع ، ولم يكن لصاحب الجناية أكثر من ثمنه ، وإن كانت أقل بيع منه بقدر الأرش وكان الباقي على ملك السيد لا يعود إلى الرهن .

                                                                                                                                            وإن فداه نظر في أرش جنايته فإن كان مثل قيمته فما دون فداه بأرش جنايته ، وإن كان أكثر فعلى قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : ليس عليه أكثر من قيمته كما لو بيع في جنايته بذل المشتري فيه قدر قيمته لم يستحق صاحب الجناية أكثر منها ، كذلك إذا فداه الراهن المالك بها .

                                                                                                                                            والقول الثاني : عليه جميع الأرش وإن زاد على قيمته إلا أن يمكن من بيعه لأنه قد يجوز لو مكن من بيعه أن يحدث راغب في ابتياعه بأرش جنايته فإذا فداه لم يعد إلى الرهن إلا باستئناف عقد ، لأن العقد إذا فسد لم يصح بما يطرأ فيما بعده .

                                                                                                                                            فصل : والقسم الثاني : أن يكذبه الراهن والمرتهن جميعا فتكون اليمين على الراهن دون المرتهن لأن المرتهن لو أقر لم تثبت الجناية بإقراره فوجب إذا أنكر ألا تجب عليه اليمين بإنكاره ، فإن حلف الراهن كان العبد رهنا بحاله ، وإن [ ص: 96 ] نكل عن اليمين وأجاب المرتهن إلى اليمين فهل ترد اليمين على المرتهن أم لا ؟ على قولين مبنيين على اختلاف قوليه في غرماء المفلس إذا أجابوا إلى اليمين عند نكول المفلس .

                                                                                                                                            أحدهما : لا يحلف المرتهن بل ترد اليمين على مدعي الجناية ، فإن حلف حكم له بأرش الجناية وأبطل الرهن وإن نكل عن اليمين كان العبد رهنا بحاله ولا شيء له ، والقول الثاني : يحلف المرتهن إذا أجاب إلى اليمين ، فإن حلف كان العبد رهنا بحاله ولا شيء لمدعي الجناية .

                                                                                                                                            وإن نكل عن اليمين ردت حينئذ على مدعي الجناية فإن حلف ثبت له الأرش وبطل الرهن ، وإن نكل فلا شيء له والعبد رهن بحاله .

                                                                                                                                            فصل : والقسم الثالث : أن يصدقه المرتهن ويكذبه الراهن ، فيبطل الرهن بتصديق المرتهن : لأنه غير لازم من جهته وهو مقر ببطلانه ، ثم إن كان المرتهن عدلا جاز أن يكون شاهدا لمدعي الجناية على الراهن لأنه غير متهم في شهادته ، وإذا بطل الرهن بإقرار المرتهن لم يثبت بإقراره أرش الجناية لأنه لا يملك الإقرار في مال غيره إلا أن يكون شاهدا فيه ويكون القول قول الراهن مع يمينه ما لم يقم المدعي ببينة .

                                                                                                                                            فإذا حلف الراهن كان العبد ، على ملكه ، ولا شيء لمدعي الجناية ولا يكون بطلان الرهن بتصديق المرتهن قادحا في صحة البيع ولا موجبا للخيار ، وإن نكل الراهن ردت اليمين على مدعي الجناية ، فإذا حلف حكم له بأرشها وبيع العبد فيها إلا أن يفديه السيد منها .

                                                                                                                                            فصل : والقسم الرابع وهي مسألة الكتاب : أن يصدقه الراهن ويكذبه المرتهن

                                                                                                                                            ففيه قولان منصوصان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن القول قول الراهن لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه مقر في ملكه بما تنتفي عنه التهمة به فوجب أن يحكم بإقراره كغير المرهون ولأن الرهن يوجب حجر الحق المعين كالمرض ثم كان المريض لو أقر بجنايته في رقبة عبد كان إقراره نافذا فوجب إذا أقر الراهن بجناية في رقبة عبده أن يكون إقراره نافذا .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن القول قول المرتهن لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن في إقرار الراهن إبطالا للرهن بعد لزومه ، والرهن إذا لزم فلا سبيل للراهن إلى إبطاله ببيع أو غيره فوجب أن يكون القول قول المرتهن .

                                                                                                                                            والثاني : أن الراهن محجور عليه في عين الرهن حجرا يمنعه من بيعه وعتقه كالسفيه [ ص: 97 ] الذي يمنعه الحجر من بيع عبده أو عتقه ثم كان لو أقر السفيه بجناية في رقبة عبده لم يحكم بإقراره لأجل حجره ، كذلك إذا أقر الراهن بجناية في رقبة عبده لم يحكم بإقراره لأجل حجره .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت توجيه القولين انتقل الكلام إلى التفريع عليهما .

                                                                                                                                            فإذا قلنا : إن القول قول الراهن فهل عليه اليمين أم لا ؟ على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يمين عليه لأنه لو رجع عن إقراره لم يقبل رجوعه واليمين إنما تجب على من يقبل رجوعه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : عليه اليمين ، لأنه بإقراره مبطل لحق المرتهن من رقبة عبده ومنكر لصحة رهنه ، فافتقر إلى يمين يدفع بها مطالبة المرتهن بصحة الرهن .

                                                                                                                                            وتكون يمينه على البت والقطع لأنها وإن كانت على فعل غيره فهي يمين إثبات ، ويمين الإثبات لا تكون إلا على البت والقطع .

                                                                                                                                            فإذا قلنا لا يمين على الراهن ، أو قلنا عليه اليمين فحلف ثبتت الجناية في رقبة العبد ، ثم لا يخلو حاله من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يباع في الجناية ، أو يفديه السيد .

                                                                                                                                            فإن بيع في الجناية لم يخل حال أرش الجناية من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكون مستوعبا لقيمة الرهن أو غير مستوعب لها ، فإن كان الأرش مستوعبا لقيمته بيع جميعه وصرف ثمنه في الأرش وقد بطل الرهن فإن كان الرهن مشروطا في بيع فالبيع جائز لا يبطل قولا واحدا لأن قول أحد المتبايعين غير مقبول في إبطال البيع بعد صحته لكن للمرتهن البائع الخيار في فسخ البيع لأنه شرط رهنا وجب انتزاعه من يده بسبب تقدم القبض .

                                                                                                                                            وإن كان الأرش غير مستوعب لقيمته بيع منه بقدر الأرش مثاله : أن تكون أرش الجناية مثل نصف القيمة فيباع نصفه في الجناية ليصرف في أرشها ويبطل الرهن فيه ، وهل يبطل في النصف الثاني الذي لم يبع في الأرش أم لا ؟ على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : قد بطل الرهن فيه أيضا لأننا قد حكمنا بثبوت الجناية في رقبته والجاني لا يصح رهنه فيما فضل من جنايته ، فوجب أن يكون رهن جميعه باطلا كما لو قامت بينة بجنايته .

                                                                                                                                            [ ص: 98 ] والقول الثاني : أن النصف الباقي رهن بحاله ، وقد نص عليه الشافعي في الأم فقال : ولو شهد شاهد على جنايته قبل الرهن حلف ولي المجني عليه مع شاهده وكانت الجناية أولى به من الرهن حتى يستوفي المجني عليه جنايته ويكون ما فضل من ثمنه رهنا ، وإنما كان كذلك لأن إقرار الراهن إنما نفذ في الجناية بحق المجني عليه لوجود الإقرار منه ، ألا ترى أن الراهن لو أقر بالجناية ولم يدعها المجني عليه كان الراهن بحاله لا يبطل بإقراره .

                                                                                                                                            وإذا كان إقراره إنما نفذ لحق المجني عليه وجب أن يكون ما فضل من حق المجني عليه لا ينفذ إقراره فيه ويكون رهنا بحاله ، فلو لم يمكن أن يباع منه بقدر الجناية بيع جميعه ، ودفع من ثمنه أرش الجناية وكان الفاضل منه رهنا مكانه أو قصاصا من الحق .

                                                                                                                                            فأما إن فداه الراهن من جنايته فإن كان أرش الجناية لا يزيد على قيمته فلا يلزمه الزيادة عليها وإن زاد أرش الجناية على قيمته فعلى قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : يفديه بقيمته ولا يلزمه الزيادة عليها .

                                                                                                                                            والقول الثاني : يفديه بجميع الأرش ، فإن فداه فهل يكون على حاله في الرهن أم لا ؟ على قولين مبنيين على اختلاف القولين الماضيين في الفاضل عن جنايته هل يكون رهنا مكانها أم لا ؟ أحدهما : يكون رهنا مكانها بالعقد الأول .

                                                                                                                                            والثاني : قد بطل الرهن فلا يعود إليه إلا بعقد مستأنف .

                                                                                                                                            فصل : وإن قلنا إن على الراهن اليمين فنكل عنها وجب ردها ، وفيمن ترد عليه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : ترد على المجني عليه لأن الأرش صائر إليه ، فإن حلف ثبت أرش الجناية في رقبة العبد وأخرج عن الرهن ليباع في الأرش على ما مضى ، وإن نكل كان العبد رهنا بحاله ولا مطالبة له على الراهن بالأرش على ما مضى لأنه كان قادرا عليه بيمينه لو حلف فإن خرج العبد من الرهن وعاد إلى الراهن وجب تسليمه إليه ليستوفي أرش جنايته منه ، وإن بيع في الرهن ولم يعد إلى الراهن بطل أرش الجناية .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن اليمين ترد على المرتهن لأن نكول الراهن يوجب نقل اليمين من جهته إلى جهة من في مقابلته فلم يجز ردها إلى المجني عليه لأنه من جهته فوجب ردها على المرتهن لأنه في مقابلته ، فعلى هذا إن حلف المرتهن حلف على العام لأن يمينه على نفي فعل الغير وكان العبد رهنا في يده .

                                                                                                                                            [ ص: 99 ] وهل يستحق المجني عليه على الراهن أرش جنايته أم لا ؟ على قولين نذكر توجيههما فيما بعد .

                                                                                                                                            وإن نكل المرتهن عن اليمين فهل ترد على المجني عليه أم لا ؟ على وجهين مخرجين من اختلاف القولين في رجوع المجني عليه على الراهن عند يمين المرتهن :

                                                                                                                                            أحدهما : لا ترد اليمين على المجني عليه ، وهذا على القول الذي يقول إن للمجني عليه الرجوع على الراهن لو حلف المرتهن لأنه لو حلف لم يبطل حق المجني عليه فوجب إذا نكل ألا ترد اليمين على المجني عليه ، فعلى هذا يكون العبد رهنا بحاله .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن اليمين ترد على المجني عليه ، وهذا على القول الذي يقول أن ليس للمجني عليه أن يرجع على الراهن لو حلف المرتهن لأن في يمين المرتهن إسقاطا لحق المجني عليه فوجب إذا نكل عنها أن ترد على المجني عليه .

                                                                                                                                            فعلى هذا إن حلف المجني عليه ثبت أرش جنايته في رقبة العبد وأخرج العبد من الرهن ليباع في الأرش ، وإن نكل عنها كان العبد رهنا بحاله على ما مضى ، فهذا جملة التفريع إذا قلنا إن القول قول الراهن .

                                                                                                                                            فصل : وإذا قلنا إن القول قول المرتهن فلقول قوله مع يمينه ويمينه على العلم لأنها على نفي فعل الغير وإنما لزمته اليمين قولا واحدا لأنه لو رجع بعد إنكاره قبل رجوعه فاحتاج إلى يمين يرتدع بها لجواز أن يرجع عنها ، فإن حلف كان العبد رهنا في يديه ولا اعتراض فيه هل للمجني عليه ، وهل على الراهن غرم الجناية للمجني عليه أم لا ؟ على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا غرم عليه لأنه أقر بما علمه من الجناية وإقراره بجناية غيره لا يوجب عليه غرم جنايته لأنه لا يخلو فيه من صدق أو كذب فإن كان كاذبا فلا شيء عليه ، وإن كان صادقا وجب انتزاع العبد الجاني من المرتهن وعلى هذا إن عاد العبد إلى الراهن إما بفكاك أو بيع فابتاعه أو أورثه أو استوهبه ثبتت الجناية في رقبته لإقرار الراهن بها وبيع فيها إلا أن يفديه الراهن منها وإن لم يعلم الراهن فلا شيء عليه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : عليه غرم الجناية لأنه بالرهن قد حال بين المجني عليه وبينه ، وأتلف عليه حقه ، فوجب أن يلزمه غرم الأرش كما لو أعتقه أو قتله فإن كان موسرا بها في الحال أو غرم وإن كان معسرا أنظر إلى أن يوسر ثم يغرم .

                                                                                                                                            فعلى هذا إن كانت الجناية مثل قيمته فما دون غرم جميعها وإن كانت الجناية أكثر من قيمته فعلى قولين :

                                                                                                                                            [ ص: 100 ] أحدهما : عليه غرم جميعها ، وإن زادت على قيمته أضعافا .

                                                                                                                                            والقول الثاني : عليه غرم قيمته ، وليس عليه غرم الزيادة ، فيكون غارما لأقل الأمرين من قيمته أو جنايته .

                                                                                                                                            وهذان القولان كما لو أراد أن يفديه من جنايته وهو غير مرهون ، ومن أصحابنا من قال : يغرم قيمته ولا يلزم غرم الزيادة قولا واحدا بخلاف ما لو أراد أن يفديه وهو غير مرهون : لأنه إذا كان غير مرهون أمكن بيعه وهاهنا لا يكن بيعه فصار متلفا له كما لو قتله أو أعتقه لم يلزمه غرم الزيادة قولا واحدا ، ولزمه أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته كما يفدي أم ولده ، وإذا غرم أرش الجناية ثم عاد العبد إليه فلا حق فيه للمجني عليه ، فهذا حكمه إذا حلف المرتهن .

                                                                                                                                            فصل : فإن نكل المرتهن عن اليمين وجب ردها ، وفيمن ترد عليه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو منصوص الشافعي : أنها ترد على المجني عليه ، وهذا على القول الذي يقول : إن المرتهن لو حلف لم يغرم الراهن شيئا فلا معنى لردها على الراهن لأنه لا يدفع بها عن نفسه شيئا وردت على المجني عليه : لأنه يثبت بها حق نفسه فعلى هذا إن حلف المجني عليه ثبت أرش الجناية في رقبة العبد وبيع فيها ، إلا أن يفديه الراهن منها .

                                                                                                                                            وإن نكل فلا شيء له في الحال ولا مطالبة له على الراهن بالأرش لأنه قد كان قادرا عليه بيمينه لو حلف فإن عاد العبد إلى الراهن لزمه حينئذ تسليمه إلى المجني عليه ليباع في الجناية أو يفديه الراهن منها ، وإن لم يجد إليه وبيع في الرهن سقط حق المجني عليه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن اليمين ترد على الراهن ، وهذا على القول الذي يقول إن المرتهن لو حلف كان على الراهن أرش الجناية للمجني عليه لأنه يدفع بيمينه عن نفسه ما يلزمه بإقراره للمجني عليه من الأرش ، فعلى هذا إن حلف خرج العبد من الرهن وبيع في الجناية إلا أن يفديه الراهن منها .

                                                                                                                                            وإن نكل عن اليمين فهل ترد على المجني عليه أم لا ؟ على وجهين مخرجين من اختلاف قوليه في المفلس أو الورثة إذا امتنعوا من اليمين هل ترد على الغرماء أم لا ؟ على قولين منصوصين ، فكذلك رد اليمين على المجني عليه مخرج على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : ترد اليمين على المجني عليه ، فإن حلف ثبت أرش الجناية وبيع فيها إلا أن يفديه الراهن منها ، وإن نكل عن اليمين فلا مطالبة له على الراهن بعوض الأرش لأنه قد كان قادرا عليه بيمينه ، فإن عاد العبد إلى الراهن لزمه تسليمه إلى المجني عليه ليباع في الجناية [ ص: 101 ] إلا أن يفديه الراهن منها وإن لم يعد إلى الراهن ، وبيع في الرهن سقط أرش الجناية .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنها لا ترد على المجني عليه ، فعلى هذا هل يرجع المجني عليه على الراهن فيغرمه أرش الجناية أم لا ؟ على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : يلزمه غرم أرشها على ما ذكرنا من اعتبارها بقيمة العبد لأنه قد صار متلفا على المجني عليه فلزم أرش الجناية برهنه ونكوله .

                                                                                                                                            والقول الثاني : لا يلزمه غرم أرشها وتكون في رقبة العبد ، فإذا عاد إلى الراهن بيع فيها إلا أن يفديه السيد فإن لم يعد سقطت مطالبته بأرشها فهذا جملة التفريع على القولين إذا أقر الراهن أنه جنى وأنكر المرتهن .

                                                                                                                                            فصل : فأما إذا أقر الراهن أنه مغصوب وأنكر المرتهن فعلى قولين منصوصين ، ولو أقر الراهن أنه أعتقه وأنكر المرتهن فعلى قولين مخرجين ، فتصير المسائل الثلاث في الإقرار بالجناية والغصب والعتق على قولين على ما مضى من التفريع عليهما .

                                                                                                                                            فصل : فأما إذا آجره ثم أقر المؤجر بجنايته وأنكر المستأجر فإن القول قول المؤجر قولا واحدا ، لأن بيعه في الجناية لا يبطل الإجارة بخلاف الرهن ، فلم يكن لإنكار المستأجر تأثير في عقده ، وكذلك لو ادعى المؤجر أنه أعتقه كان قوله مقبولا والإجارة بحالها ، وهل للعبد أن يرجع على سيده بأجرة المدة الباقية من الإجارة بعد عتقه أم لا ؟ على قولين يأتي موضع توجيههما إن شاء الله ، ولكن لو أقر المؤجر أنه مغصوب وأنكر المستأجر كان على قولين ، لأن إقراره لو صح لأبطل الإجارة فصار كإقراره بجناية المرهون وبغصبه فيكون على قولين .

                                                                                                                                            فصل : فأما إذا باعه ثم أقر البائع أنه كان قد جنى أو أقر أنه أعتقه أو أنه مغصوب وأنكر المشتري فإنه لا يقبل إقرار البائع قولا واحدا ويكون القول قول المشتري وكذلك لو كاتبه ثم أقر أنه جنى أو غصب لم يقبل إقراره قولا واحدا .

                                                                                                                                            والفرق بين البيع والكتابة حيث لم يقبل إقراره قولا واحدا وبين الرهن حيث قبل إقراره في أحد القولين أن إقراره بعد البيع والكتابة إقرار بعد خروجه من ملكه فلم ينفذ إقراره في غير ملكه وإقراره بعد الرهن إقرار في ملكه ، فجاز أن ينفذ في أحد القولين .

                                                                                                                                            فصل : فأما المزني فإنه اختار أن يكون القول قول المرتهن ، وهذا أصح القولين واختار أن على الراهن غرامة الأرش وهذا أيضا أصح القولين إلا أنه استدل عليه بشيئين أحدهما ضعيف والآخر غير صحيح .

                                                                                                                                            [ ص: 102 ] فأما الضعيف فهو أن قال : لأنه والعلماء مجمعة على أن من أقر بما يضره قبل إقراره ومن أقر بما يبطل به حق غيره لم يجز إقراره على غيره ومن أتلف شيئا لغيره فيه حق فهو ضامن بعدوانه فكأنه يقول : إن في إقراره إضرارا بنفسه فقبل إضرارا بغيره فلم يقبل .

                                                                                                                                            فيقال للمزني : ليس يمتنع قبول إقرار من أضر بنفسه ، وإن كان فيه إقرار بغيره إذا لم تلحقه تهمة في إقراره . . ألا ترى أن العبد لو أقر على نفسه بجناية عمد قبل إقراره وإن كان فيه إضرار بسيده ، لأن التهمة لا تلحقه في إقراره .

                                                                                                                                            كذلك الراهن وإن أقر بما فيه إضرار بالمرتهن قبل إقراره لأن التهمة لا تلحقه في إقراره .

                                                                                                                                            وقوله : ومن أتلف شيئا لغيره فيه حق فهو ضامن لعدوانه ، فيقال له ليس من الراهن إتلاف لما فيه حق للمجني عليه لأن حقه في رقبة العبد الجاني وهو باق لم ينقله الراهن وإنما وقع عليه عقد مع بقاء الرقبة ووجود العين .

                                                                                                                                            وأما ما استدل به مما هو غير صحيح فهو أن قال : وقد قال الشافعي في هذا المعنى : ولو أقر بأنه أعتقه لم يضر المرتهن ، فيقال له : وهذا أيضا على قولين كالجناية ، فلم يصح الاستدلال به والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية