[ ص: 26 ] ذكر الروم أحوال ملوك
نذكر هاهنا أحوال الروم من عهد بسيل إلى الآن ، فنقول : من عادة ملوك الروم أن يركبوا أيام الأعياد إلى البيعة المخصوصة بذلك العيد ، فإذا اجتاز الملك بالأسواق شاهه الناس وبأيديهم المداخن يبخرون فيها ، فركب والد بسيل وقسطنطين في بعض الأعياد ، وكان لبعض أكابر الروم بنت جميلة ، فخرجت تشاهد الملك ، فلما مر بها استحسنها ، فأمر من يسأل عنها ، فلما عرفها خطبها وتزوجها وأحبها ، وولدت منه بسيل وقسطنطين ، وتوفي وهما صغيران ، فتزوجت بعده بمدة طويلة نقفور ، فكره كل واحد منهما صاحبه ، فعملت على قتله ، فراسلت الشمشقيق في ذلك ، فقصد قسطنطينية متخفيا ، فأدخلته إلى دار الملك ، واتفقا وقتلاه ليلا ، وأحضرت البطارقة متفرقين وأعطتهم الأموال ودعتهم إلى تمليك الشمشقيق ، ففعلوا ، ولم يصبح وقد فرغت مما تريد ، ولم يجر خلف .
وتزوجت الشمشقيق وأقامت معه سنة ، فخافها واحتال عليها ، وأخرجها إلى دير بعيد ، وحمل ولديها معها ، فأقامت فيه سنة ، ثم أحضرت راهبا ، ووهبته مالا ، وأمرته بقصد قسطنطينية والمقام بكنيسة الملك ، والاقتصار على قدر القوت ، فإذا وثق به الملك ، وأراد القربان من يده ليلة العيد سقاه سما ، ففعل الراهب ذلك ، فلما كان ليلة العيد سارت ومعها ولداها ، ووصلت قسطنطينية في اليوم الذي توفي فيه الشمشقيق ، فملك ولدها بسيل ، ودبرت هي الأمر لصغره ، فلما كبر بسيل قصد بلد البلغار ، وتوفيت وهو هناك ، فبلغه وفاتها ، فأمر خادما له أن يدبر الأمور في غيبته .
ودام قتاله لبلغار أربعين سنة ، فظفروا به ، فعاد مهزوما وأقام بالقسطنطينية يتجهز للعود ، فعاد إليهم ، فظفر بهم وقتل ملكهم ، وسبى أهله وأولاده ، وملك بلاده ، ونقل أهلها إلى الروم ، وأسكن البلاد طائفة من الروم ، وهؤلاء البلغار غير الطائفة المسلمة ، فإن هؤلاء أقرب إلى بلد الروم من المسلمين بنحو شهرين ، وكلاهما يسمى بلغار .
[ ص: 27 ] وكان بسيل عادلا ، حسن السيرة ، ودام ملكه نيفا وسبعين سنة ، وتوفي ولم يخلف ولدا ، فملك أخوه قسطنطين ، وبقي إلى أن توفي ولم يخلف غير ثلاث بنات ، فملكت الكبرى وتزوجت أرمانوس ، وهو من أقارب الملك ، وملكته فبقي مدة ، وهو الذي ملك الرها من المسلمين .
وكان لأرمانوس صاحب له يخدمه قبل ملكه ، من أولاد بعض الصيارف ، اسمه ميخائيل ، فلما ملك حكمه في داره ، فمالت زوجة قسطنطين إليه ، وعملا الحيلة في قتل أرمانوس ، فمرض أرمانوس فأدخلاه إلى الحمام كارها وخنقاه ، وأظهرا أنه مات في الحمام ، وملكت زوجته ميخائيل ، وتزوجته على كره من الروم .
وعرض لميخائيل صرع لازمه وشوه صورته ، فعهد بالملك بعده إلى ابن أخت له اسمه ميخائيل أيضا ، فلما توفي ملك ابن أخته وأحسن السيرة ، وقبض على أهل خاله وإخوته ، وهم أخواله ، وضرب الدنانير في هذه السنة ، وهي [ سنة ] ثلاث وثلاثين ، ثم أحضر زوجته بنت الملك ، وطلب منها أن تترهب وتنزع نفسها عن الملك ، فأبت ، فضربها وسيرها إلى جزيرة في البحر ، ثم عزم على القبض على البطرك والاستراحة من تحكمه عليه ، فإنه كان لا يقدر على مخالفته ، فطلب إليه أن يعمل له طعاما في دير ذكره بظاهر القسطنطينية ليحضر عنده ، فأجابه إلى ذلك ، وخرج إلى الدير ليعمل ما قال الملك ، فأرسل الملك جماعة من الروس والبلغار ، ووافقهم على قتله سرا ، فقصدوه ليلا وحصروه في الدير ، فبذل لهم مالا كثيرا ، وخرج متخفيا ، وقصد البيعة التي يسكنها ، وضرب الناقوس ، فاجتمع الروم عليه ، ودعاهم إلى عزل الملك فأجابوه إلى ذلك ، وحصروا الملك في دار ، فأرسل الملك إلى زوجته وأحضرها من الجزيرة التي نفاها إليها ، ورغب في أن ترد عنه فلم تفعل ، وأخرجته إلى بيعة يترهب فيها .
ثم إن البطرك والروم نزعوا زوجته من الملك ، وملكوا أختا لها صغيرة ، واسمها تذورة ، وجعلوا معها خدم أبيها يدبرون الملك ، وكحلوا ميخائيل ، ووقعت الحرب [ ص: 28 ] بالقسطنطينية بين من يتعصب له وبين من يتعصب لتذورة والبطرك ، فظفر أصحاب تذورة بهم ، ونهبوا أموالهم .
ثم إن الروم افتقروا إلى ملك يدبرهم ، فكتبوا أسماء جماعة يصلحون للملك في رقاع ، ووضعوها في بنادق طين ، وأمروا من يخرج منها بندقة ، وهو لا يعرف باسم من فيها ، فخرج اسم قسطنطين ، فملكوه وتزوجته الملكة الكبيرة ، واستنزلت أختها الصغيرة تذورة عن الملك بمال بذلته لها ، واستقر في الملك سنة أربع وثلاثين [ وأربعمائة ] فخرج عليه فيها خارجي من الروم اسمه أرميناس ، ودعا إلى نفسه ، فكثر جمعه حتى زادوا على عشرين ألفا ، فأهم قسطنطين أمره ، وسير إليه جيشا كثيفا ، فظفروا بالخارجي وقتلوه ، وحملوا رأسه إلى القسطنطينية ، وأسر من أعيان أصحابه مائة رجل ، فشهروا في البلد ، ثم أطلقوا وأعطوا نفقة ، وأمروا بالانصراف إلى أي جهة أرادوا .