المرتكز الأول: الانفتاحية
الانفتاحية يراد بها: انفتاح الخطاب الدعوي على الناس كافة، وعلى العالمين قاطبة، دون انغلاق بفئة، أو انحصار بنخبة.. فالدعوة في طبيعتها للكافة، لا تقتصر على النخبة أو الصفوة من أهل التدين، بل ينساح خطابها ويتسلل إلى كل قلب، وكل عقل، وكل بيت، وكل ناد، وكل مسجد، جهارا لا لواذا.
وقد انطلق خطاب الله تعالى، الداعي إليه، منفتحا على جمهور الناس من أول الأمر، مناديا فيهم أن اعبدوا الله واستجيبوا لدعوته، قائلا لهم: ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) (البقرة: 21) .
والرسول الكريم، إمام الدعاة، صلوات الله وسلامه عليه، توجه بخطابه الدعوي للناس كافة: ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (سبأ: 28) .
ومن كلف بالتبليغ والتبيين، أمر أن ينطلق ببيانه للحق، إلى الناس، كما قال تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) (آل عمران: 187) . [ ص: 41 ]
إذن، لا بد أن يرتكز خطاب الدعاة على الانفتاحية، ينفتح على الناس جميعا، ولا ينغلق على فئة من البشر، أو نخبة من الناس، وإن كانوا صفوة.
أما دعوة بعضهم إلى وجوب الاقتصار على صفوة راسخة في العلم والإيمان، بتخصيص الدعوة فيها، والالتزام معها دون جماهير الناس (!!) فهي دعوة ضارة -إن صح وجود هـذه الصفوة وأمكن دوامها- لأنها ستعكف على علاج من صح وسلم، بإهمال الذي يعاني الألم والسقم من الجهل والضلال.
فالانفتاحية تمثل -والله أعلم- الفكرة الصائبة، والطريقة الراجحة في الدعوة إلى الله، التي سلكها الرسل، وهي التي تعكس بحق الواقع الإسلامي، وتصور بصدق المجتمع الإسلامي المنشود.
ولا يمكن أن نقول: إن المجتمع الإسلامي مجتمع صفوي -بالمعنى الشائع اليوم- الكل فيه على درجة واحدة من التقوى، والورع، والعلم، والعمل، والإيمان.. ومن استقرأ المجتمع الإسلامي على عهد النبوة، وعصر الوحي المعصوم، وزمان الخلافة الراشدة،وحال التابعين بإحسان من القرون المفضلة، يدرك تمام هـذا الأمر.
بل يتضح لكل عالم بالسنة، قارئ للقرآن، أن الصفوية -بالمعنى المراد لها اليوم- في أي مجتمع أرضي غير كائنة.. يستحيل أن يكون في [ ص: 42 ] الأرض مجتمع صفوي بهذا المعنى: لا يذنب فيه أحد، ولا يخطئ فيه أحد، ولا يجرم فيه أحد، ولا يأثم فيه أحد، ولو كان المجتمع مجتمعا قرآنيا، ولنا في جيل خير القرون، المثال والأنموذج.
وليس هـذا مقصود الشارع ولا هـدف الدعوة، وإنما يريد الله ويقصد الشرع إلى إيجاد مجتمع يغلب فيه الحق على الباطل وناصريه -أي مع وجود الباطل- ويتغلب فيه الخير ويقل الشر، ويظهر الطيب، وينكمش الخبيث.. وهكذا.
فالشر موجود ولكنه قليل، والخبيث باق ولكنه منكمش، والباطل يسعى للاختراق ولكنه زاهق مغلوب، وسنة التدافع مستمرة، وهي قدر الحياة.
بل إن لم يوجد في مجتمع المسلمين المذنبون والخطاءون، لاستبدل الله هـذا المجتمع بمجتمع أفراده يذنبون ويستغفرون، ويخطئون ويتوبون، كما أخبر سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هـريرة وأبي أيوب الأنصاري ، رضوان الله عليهما وعلى الصحابة أجمعين، ( يقول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أبي هـريرة: والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ) [1] . [ ص: 43 ]
وفي رواية أبي أيوب ، ( يقول صلى الله عليه وسلم : لولا أنكم تذنبون، لخلق الله خلقا يذنبون، فيغفر لهم ) [2] .
ومعنى ذلك: أن الشرع لا يقصد إلى إيجاد مجتمع معصوم عن الذنب، خال من المذنبين،ومن المعصية والعاصين، بقدر ما يقصد إلى تغليب الخير والحق والبر والتقوى، على الشر والباطل والإثم والعدوان.
ويؤكد ذلك أن المجتمع الذي اصطفاه الله تعالى على العالمين، ثم أورثه الكتاب باعتباره مجتمعا صفويا -بالمعنى القرآني- كان على هـذه الصورة التي وصفناها.. ومن شاء فليقرأ من سورة فاطر قول الله تعالى الصريح: ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هـو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ) (فاطر: 32 -33) .
إذن: قد يكون ظالم نفسه من أهل الذنب فردا في المجتمع الإسلامي، وقد يكون المقتصد في عبادته، المتوسط في الذكر والطاعة، عضوا في المجتمع الإسلامي، كما يكون من أعضائه -وقد يكونون الفئة الغالبة- السابقون بالخيرات، والمسارعون إلى الطاعات، المحافون للمنكرات. [ ص: 44 ]
ولقائل أن يقول: إذن ما الفرق بين مجتمع الإيمان والإسلام، وبين مجتمع الكفر والضلال، إذا لم يخل المجتمع الإسلامي من الذنب والمذنبين؟