الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق

الأستاذ / عبد الله الزبير عبد الرحمن

المرتكز الثاني: التيسير ورفع الحرج

وخطاب الدعاة لا بد وأن يرتكز -أيضا- على التيسير ونبذ التعسير وما كان لدين الإسلام أن يمت إلى التعسير والمشقة بصلة، فقد تزينت أحكامه بالتيسير، وتجملت شرائعه بدفع المشقة، وتطيبت مقاصده برفع الحرج والضيق.

القرآن يدعو إلى التيسير والله تعالى في قرآنه الكريم، ينفي الحرج عن دينه،

فيقول: ( هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم ) (الحج: 78) .

ويعقب سبحانه وتعالى على التكاليف، بإرادة التيسير فيها، كما قال بعد إيجاب الصيام مع رعاية المشقة في السفر والمرض: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (البقرة: 185) .

وكما قال سبحانه بعد اشتراط الوضوء للتطهر، وصحة الصلاة، ورعاية الحرج عند انعدام الماء والمشقة، والعجز عنه لمرض أو ضيق وقت، [ ص: 83 ] أو نحو ذلك: ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) (المائدة: 6) .

وعند ذكر الله سبحانه وتعالى ما خص به رسوله خاتم النبيين محمدا صلى الله عليه وسلم ، من شرح صدره، ووضع وزره، ورفع ذكره، أبان أن العسر مدفوع، مطارد باليسر، أينما كان، أعقبه بيسرين فأبطلا إعساره،

فقال تعالى: ( ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك * فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا ) (الشرح: 1-6) ..

وهذا المعنى يؤكده ما أخرجه ابن أبي حاتم والبزار ( عن أنس بن مالك ، يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وحياله جحر، فقال: لو جاء العسر فدخل هـذا الجحر، لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه ) [1] .. وفي كون العسر الواحد مطارد بيسرين،أخرج ابن جرير وأبو بكر الجصاص،وابن أبي حاتم بسنده عن الحسن، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لن يغلب عسر يسرين ) [2] . [ ص: 84 ]

والسنة تدعو إلى التيسير

وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت تترى تذكر بهذا الأصل، وتنبه إليه، وتدعو إلى الاعتماد عليه، وتؤكد على الدعاة الارتكاز عليه.

ففي البخاري من حديث أبي هـريرة : ( إن دين الله يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا.. ) [3] وفي مسند أحمد من حديث أبي هـريرة أيضا مرفوعا: ( إن دين الله يسر، إن دين الله يسر، إن دين الله يسر " ثلاثا ) [4] .

وفيه أيضا بسند صحيح من حديث الأعرابي: ( إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره ) [5] .

بل ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ) ، كما أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها [6] .

ويوضح رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم أهمية الارتكاز على التيسير في الدعوة والتبليغ والتكليف، فيترك الأمر بشيء خشية أن يشق على المسلمين أو [ ص: 85 ] يفرض عليهم، فيقول في أمر السواك: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ) [7] .

( ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم أوائل ليالي رمضان، فصلى في المسجد قيام رمضان، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية، فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، ثم تشهد، فقال: أما بعد: فإنه لم يخف علي شأنكم الليلة، ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها ) [8] .

وهكذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم بسننه القولية والفعلية يدعو إلى التيسير، ويرفع الحرج، مبلغا ومطبقا.

واستقراء لهذا الأصل من كل هـذه النصوص، خرج الفقهاء قواعد كلية تراعي التيسير في الأحكام والتكليف، تخفيفا على الناس، ودفعا للتعسير، فوضعوا قاعدة كلية تقول: " المشقة تجلب التيسير " ، وأخرى تقول: " عفي عما عسر " [9] . [ ص: 86 ]

فمن باب أولى أن ينتهج الدعاة هـذا المسلك، سيما وأن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم نبه الدعاة خاصة بذلك، فيما أخرجه البخاري من حديث أبي هـريرة مرفوعا: ( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) [10] ، وحديث: ( بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا ) [11] .

ولما ابتعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن دعاة معلمين، أوصاهما صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال لهما: ( بشرا ويسرا، وعلما ولا تنفرا ) ، ونص على الدعوة بيسر فقال لهما: ( ادعوا الناس، وبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا ) [12] .

التالي السابق


الخدمات العلمية