الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المسلك الثاني: إقرار الرخص في محالها

والأخذ بالرخص في محالها ومواضعها التي أقرها الشرع وبينها هـو الأولى، وهو الأحب إلى الله تعالى، وفي المسند من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه ) [1] .

فليس من الدين في شيء ولا الدعوة، المحاولات التي تجري من بعض المسلمين لإلزام الناس بالعزائم فقط وحملهم عليها، والإنكار على من أخذ بالرخصة إن هـذا -والذي بيده الملك- تضييق لما وسعه الله، وميل بالناس إلى الحرج والمشقة، وما جعل الله علينا في الدين من حرج

وذلك أن رخص الدين إنما هـي من طرق التشريع، للتيسير ورفع الحرج، وإنك لتحس ارتباط التيسير مع الرخصة في مواطن الرخص في الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء.

فعند تقرير رخصة الفطر في رمضان للمسافر والمريض، يذيل الله عز وجل ذلك بتنبيه أن هـذا تيسير ودفع للعسر،

فيقول: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (البقرة: 185) .

وللتخفيف على فاقد الطهور، يشرع الله التيمم تيسيرا له ورفعا للحرج، يقول عند ذلك: ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) (المائدة: 6) . [ ص: 101 ]

إذن إقرار الرخص في محالها، ضرب من ضروب التيسير، وسبيل من سبل التخفيف، ومسلك يقود إلى دفع الحرج، ورفع المشاق والتعسير، ذلك أن إتيان الرخص وغشيانها من محاب الله تعالى تماما كالتمسك بالعزائم.

وفي المقابل، إنكار الرخص يكون ضربا من ضروب التشديد، وسبيلا من سبل التعسير، ومسلكا يميل بالناس إلى الحرج ويبقي المشاق، وهذا مضاد لمحاب الله، ومناقض لطرق التشريع، ومخالف لمقاصد الشارع في التكليف.

فكيف بمنكري الرخص إذا علموا أن من الرخص ما يكون واجبا، ومنها ما يكون مندوبا، ناهيك عن أن يكون مباحا، وهو الحكم الأصل للرخصة.

قال السيوطي رحمه الله: الرخص أقسام:

" ما يجب فعلها: كأكل الميتة للمضطر، والفطر لمن خاف الهلاك بغلبة الجوع والعطش، وإن كان مقيما صحيحا، وإساغة الغصة بالخمر...

وما يندب: كالقصر في السفر، وكالفطر لمن يشق عليه الصوم في سفر أو مرض، والإبراد للظهر، والنظر إلى المخطوبة..

وما يباح: كالسلم -أن يبيع السلم- اه " [2] .

ومن المشهور عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى أنه كان يقول: " إنما العلم عندنا الرخص عن الثقة، فأما التشديد فكل إنسان يحسنه " [3] . [ ص: 102 ]

مفاسد عدم قبول الرخص

والرافض لرخص الله، رافض لفضله وسماحته، وجاحد لنعمته، ومنكر لتيسيره، وبالتالي يقوده رفضه لرخص الله عز وجل إلى غضبه وسخطه.

وذلك أن إتيان الرخصة من محاب الله، وبالتالي فرفضها من مساخطه ومكارهه.

بل إن عدم قبول الرخص وعدم إقرارها في محالها بالإنكار والرفض، قد يضر بصاحبه أيما ضرر، ويجلب له المفاسد والخبائث، حتى يفقد دينه، أو يسخط ربه.

( أمر النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح في رمضان لما قرب من العدو، أمر أصحابه بالفطر، فبلغه أن قوما صاموا فقال: أولئك العصاة ) [4] .

وصلى على ظهر دابته مرة، وأمر من معه أن يصلوا على ظهور دوابهم، فوثب رجل عن ظهر دابته فصلى على الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مخالف خالف الله به، فلم يمت حتى ارتد عن الإسلام [5] .

فأنت ترى كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف رافضي الرخصة بالعصاة، وترى كيف ختم الله على ذاك الرجل الذي رفض رخصة نبيه، كأنه أتقى [ ص: 103 ] منه، وأخشع، وأعلم لما يرضي الله من رسوله ونبيه، فما مات إلا على غير دين الإسلام.

إقرار الرخص لا الترخص

إن عدم الإنكار على من أخذ بالرخصة، لا يعني بحال الترخص في كل شيء، بالتشهي والهوى والجري وراء زلات العلماء، وتتبع رخص المذاهب، قال سليمان التيمي : " لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله " [6] .

وسبب ذلك أن المتتبع للرخص، والمنتقي للأقوال من شتى المذاهب، دونما ترجيح معلوم، أو دليل مرسوم، أو استدلال موافق لأصول التشريع، معتبر في قواعد الاستنباط، فإنه بذلك يتبع هـواه، ويختار ما اشتهاه، فيكون مناقضا لمقصد الشريعة في إخراج العبد من دائرة هـواه، ليكون عبدا لله اختيارا، كما هـو عبد لله اضطرارا.

وقد ذكر الإمام المحقق الشاطبي ، رحمه الله تعالى، مفاسد تتبع رخص المذاهب، نذكر منها باختصار:

1- الانسلاخ من الدين، بترك اتباع الدليل، أي اتباع الخلاف.

2- ترك ما هـو معلوم إلى ما ليس بمعلوم.

3- انخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف. [ ص: 104 ]

4- الإفضاء إلى العقول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم [7] .

وفيما دون ذلك لا ننكر على الناس اتخاذهم من الأقوال الأخف، ومن الأحكام الأيسر، فنبينا صلى الله عليه وسلم كان لا يختار إلا الأيسر، مما لا حرمة فيه، كما في الصحيحين، ( عن عائشة رضي الله عنها : ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما،ما لم يكن إثما ) [8] .

التالي السابق


الخدمات العلمية